يرد بعض المثقفين جذور الأزمة السودانية لغياب الحلول الوسطى في مقابل حالة من التضاد والثنائية ترسم الحياة السودانية برمتها، وتتمحور حول لونين فقط (أبيض وأسود). وأدى غياب الحلول الوسطى هذه، إلى حالة استقطاب حادة تمتد من السياسة (حكم الساسة المتناكفين، وحكم العسكر المستبدين)، وحكم الساسة نفسه يتمحور حول مماحكات الوصول للسلطة بين (تمسك حكومي، وتمادي لقوى المعارضة) بصورة تغيب معها مصلحة الوطن، وحتى في ضرب الرياضة تنحصر القمة السودانية في كرة القدم بين ناديي (الهلال والمريخ) لدرجة عرفنا معها التعصب الرياضي وعنف الملاعب. وعلى صهوة هذه المعادلة، والدبابة وصلت الحكومة الحالية، حكومة الجنرال عمر البشير بايعاز من الإسلاميين في العام 1989م، كأحد أهم تمظهرات التقابل الثنائي الضارب عميقاً في المشكل السوداني. مشاكل السودان الحديث، يمكن القول إنها ابتدرت في العام 1948 وقبيل استقلال السودان بثمان سنوات، حيث انعقد مؤتمر المائدة المستديرة، وخلال جلساته قرر الجنوبيين الاستمرار في الدولة السودانية بالرغم من الفرصة التي لاحت لهم بالانضمام إلى يوغندا، ولكن تبين لاحقاً أن ذلك الخيار شابه كثير من التسرع وسنعرف ذلك لاحقا. تحقق الاستقلال على يد نخبة متعلمي السودان الذين انتظموا في "مؤتمر الخريجين"، ولكن الاستقلال المفترض أنه منصة انطلاق لتفجير طاقات أكبر دولة افريقية وربما أكثر دول القارة السمراء موارداً نغصته المرارات التي يتجرعها الأهالي حتى ساعته. وابتدرت صراعات النخبة السودانية في الموقف من الاستقلال ذاته، فتم رفع شعار السودان للسودانيين، وشعار الاندماج مع مصر ومع رجوح الخيار الأول فإن دعاة الثاني ما زالت اشواقهم تشرئب لمصر فخلق ذلك نوعاً التشرزم وقتها والتلاوم حالياً حول أي الخيارات كان ليكون أجدى للسودانيين، وولدّ ذلك الجدل سؤالاً لم تتم أجابته حتى اليوم ومتصل بالهوية السودانية وإلى ايهما تنتمي العروبة أم الافريقانية. كذلك؛ وعوضاً عن لجوء النخبة الحائزة على الاستقلال إلى تكوين دولة ذات طابع حداثوي، أندفع الخريجين لعقد تحالفات وصفقات مع طوائف دينية ينصاع مريديها لأوامر قادتها ك (حال الميت بين يدي غاسله) طبقاً لتوصيفهم أنفسهم. وبالتالي بدلاً من أخذ يد السودانيين أماماً نواحي المستقبل، تراجع المثقفين والنخب لصالح خدمة مشروعات طائفية. الأمر لم يتوقف عند الولاء للطوائف، ولكن للأنجرار إلى صراعاتها فانتظمت البلاد كلها في معسكرين، طائفة الأنصار المؤسسة لحزب الأمة، وطائفة الختمية الموالية للحركات الاتحادية وهو أمر عاظم من الكيد السياسي، حد إقدام أحد الطائفتين على تسليم السلطة إلى العسكر نكاية في الأخرى التي كانت متجهة لحيازة السلطة. وبالتالي فإن إدخال بذرة العمل السياسي إلى الجيش، تم بايعاز من الساسة انفسهم، وبات من الطبيعي أن يحرك كل حزب بيادقه في الجيش مرة لحيازة السلطة لتنفيذ مشروعاته السياسية، ومرة لقطع الطريق امام باقي التكتلات السياسية في الجيش، وكثيراً لاسقاط نظم مخالفة سياسيا وفكريا. ولكن بخلاف ذلك كله؛ فإن أكبر اخطاء وخطايا الساسة السودانيين تمثلت في اقصاء أهالي جنوب السودان وغربه من المعادلة، ولنعترف أن ذلك تم ابتداءً بحسن نية لم يخلْ البتة من تعالٍ سببه الرئيس تفشي شعور أن أبناء النيل والشمال المتعلمين أحق بحيازة جلّ إن لم نقل كل المناصب. ذات التعالي الآنف أدى إلى رفض مطلب الجنوبيين في الحكم الفيدرالي، واعتبر ذلك نوعاً من الكبائر، واصبحت الشوارع تهتف (نو فيدريشن، إن ون نيشن). تلا ذلك؛ مرحلة شديدة الوقع والأثر، حيث جرت محاولات لفرض العروبة والاسلام على اهالي الجنوب، عبر فرض سياسات الأسلمة والتعريب. ثم تم تفويت فرصة اتفاقية اديس ابابا في العام 1972م والتي أوقفت الحرب الأهلية في جنوب السودان، وذلك بتحالف ذات اسلاميي السودان اليوم مع الرئيس وقتها جعفر نميري حيث تم فرض الشريعة الاسلامية بصورة شائهة، فجرت حرب الجنوب مجدداً في العام 1983م. وفي دارفور؛ لم يرى ابناء الاقليم انفسهم ممثلين في الحكومات المتعاقبة، وطال التهميش ولاياتهم، وعزّت الخدمات عليهم، فيما الإقليم يتحمل كفل رفد الميزانية بأكبر مداخيل، ومع وصول الجنرال البشير تعمقت الأزمة الدارفورية حد رفع السلاح. المؤسف في الأمر؛ إن كل تلك الأخطاء ما تزال مستمرة دون استقاء للدروس والعبر. والأشد مدعاة للأسف، هو تسلط حكومة على رقاب السودانيين، فشلت في صناعة إية محاولات لايجاد أراضي وسطى، وكأنما قامت أساساً لتوصيل هذه الأخطاء حتى سدرة منتهاها، حكومة كما يقول السيد المسيح "بسيماها تعرفونها"، وما من سمة للانقاذ إلا اللون الأسود. ولهذا كله فالسودان في حاجة إلى قادة جدد يخرجونه من الدائرة الشريرة التي ما بارحها يوماً، وذلك بالعمل على عدم تكرار اخطاء الماضي. ورقة مقدمة في مخيم إعداد القادة - واشنطون - سبتمبر 2014