# عند مطلع الأسبوع الماضي كنت قد قمت بنشر مقال على هذا الوسيط. تناولت فيه الثورة المعرفية الهائلة التي نشهدها تتوسع في دول الغرب وهي " بلا شك" قد أحدثت طفرة كبيرة في جميع مناحي الحياة، وكان امتدادها ليس في الغرب فحسب وانما في العالم كله. حيث أتتني الكثير من التعليقات، ولكن واحدا منها فقط كان قد لفت نظري وأضحكني قليلاً ثم ما لبثت ان تحسرت على حالنا كثيراً. (لعل من يضحك قليلاً يبكي كثيراً).حيث قالت لي أحد الصديقات: ( ان الغرب قد تطور بالفعل ولا زال يتقدم يوما بعد يوم وهذا شيء مفرح، ولكن المحزن في نفس الوقت هو اننا كمسلمين - كما هو حال غيرنا من سكان العالم النامي - ظللنا نمارس دور (المتفرج) فقط لهذه الثورة، مكتفين بالجلوس على كرسي المشاهدة ننتظر ماذا يصنع القوم لنقبل عليه كمستهلكين) . ثم ختمت حديثها تعليقاً على تساؤلي بهل حان موعد السفر عبر الزمن في ظل هذا التطور السريع والمضطرد الذي يشهده العالم قائلة: ( بأن حقائبنا جاهزة يا عزيزي، ونحن على أي حال مستعدين للسفر؛ لاننا قوم نعيش اللحظة دون تفكير وتأمل ونستفيد فقط من علوم الغرب وابتكاراته) . # ربما كانت صديقتي محقة فيما ذكرته، إذ لا يخفى على علم أحد ان سكان العالم النامي ظلوا وعلى الدوام - منذ ظهور المدنية الحديثة - مستهلكين فقط لما ينتجه الغرب دون ان يكون لهم أي مساهمة تذكر، كأن عقولهم قد أغلفت وتوقفت عن الادراك والتفكير، وتركز كل جهدها على (معايشة اللحظة) فقط. # اذا رجعنا إلى الوراء قليلاً، وألقينا نظرة على الأمم السابقة، عبر التسلسل التاريخي للأحداث، نجد ان هناك الكثير من الأمم - غير الغربية - كان لها فضل ومساهمة كبيرة فيما نحن عليه الان. إذ كانت هناك حضارات سابقة عبر مختلف الحقب كانت اكثر تطورا عن غيرها، منها حضارة وادي النيل أو النوبة ( التي تشير الدراسات إلى انها من أقدم الحضارات على وجه الارض)، ثم حضارة الفراعنة على امتداد النيل، ثم البابليون وغيرهم من الأمم التي حدثنا عنها القرآن والتي كانت أكثر تطوراً وتقدما ولا نعلم مقدار هذا التقدم: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروهاأكثر مما عمروها...)وغيرها من آي الذكر. ثم أخيراً المسلمين الذين تسيدوا العالم في زمن ما نتيجة تقدمهم في العلوم والمعارف وكانوا أهل حضارة، إذ لا يذكر علم من العلوم الحديثة إلا وأشير إلى واحد منهم كان له السبق والفضل فيه. ولكن ماذا حدث فقد تغير كل شيء فالعقل المتقد الذي كنا نراه يعمل ويفكر ويبتكر افل نجمه واصبح كأن لا وجود. فالمسلمين (خاصةً العرب منهم) أصبح أمرهم عجيب ووضعهم شاذ جداً، لا يمكن تفسيره بما فسر به حال غيرهم. ذلك انهم لا يعانون بما يعاني منه غيرهم من سوء الأحوال الاقتصادية والبيئة غير الملائمةوما إلى ذلك. وكانت النتيجة ان حدث تحول تاريخي كبير تولى بموجبه الغرب الرآية وآل كل شيء إليه من فكر وتقدم وما إلى ذلك، فصار الغربيون الآن الأذن التي تسمع واللسان الذي يتحدث والعين التي ترى والعقل الذي يفكر ولم يكتفوا بذلك بل أصبحوا يفكرون نيابة عن الجميع ويخلقون رغباتهم ثم يحققونها لهم بما انتجوه فأضحى الكل يسير على خطاهم ( وما أريكم إلا ما أرى). ومن حق المرء أن يتساءل هنا عن تفسير حالة الخمول العقلي أو (البيات الشتوي) هذه التي ضربت هؤلاء فجريان الأمر بهذه الطريقة يجعله محلاً للاستغراب والتساؤل ويلزم طرحه للدراسة بالرجوع الى جذوره وابعاده المرتبطة به التاريخية منها والبايلوجية والفطرية والوراثية وغير ذلك، لنخلص الى نتائج تفتح الباب أمام حل لهذه المعضلة أو تفسير لأسبابها لمحاولة تجاوزها مستقبلاً. # اعتقد بأن أمر واحد هو سبب هذا التدني - وقد يتفق معي كثيرون في ذلك - ألا وهو عامل البيئة المحيطة. إذ لا خلاف في أن البيئة تعتبر المؤثر الأول على العقل وتكوينه وسائر جسد الإنسان ففكر الإنسان يدور حولها ويتأثر بها سواء أكانت اقتصادية أو اجتماعية أو طبيعية. الأمر الذي يعني أن سبب غياب مساهمات غير الغربيين يرجع إلى البيئة كسبب أساسي أكثر من أي شيء آخر -هذا اضافة الى الأسباب الاخرى بطبيعة الحال. # لعل ما يجعل هذا التعليل منطقي - نوعاً ما - هو اننا اذا ضربنا مثالا بوكالة(ناسا) الفضائية الامريكية - ودائماً ما اضرب بها المثل(ولله المثل الأعلى) باعتبار انها أكبر مؤسسة في العالم الان تجرى فيها كافة التجارب العلمية ويعمل بها معظم علماء الكون - لوجدنا أن غالبية الذين يعملون داخلها من العلماء والموظفين هم من جنسيات آسيوية وافريقية أي من بلدان العالم الثالث المتخلف، أو من اصول افريقية. حيث يمثل هؤلاء العمود الفقري (لناسا) ولغيرها من المؤسسات العلمية الغربية الاخرى. ما يعني ان غير الغربيين يمكنهم أن يفكروا ويعملوا ويخترعوا أشياء جديدة تساهم في التقدم الحضاري للبشرية، مثلهم مثل الغربيين( أصحاب الريادة)، بل ربما يتفوقوا عليهم بصورة أو بأخرى اذا ما وجدوا البيئة الاقتصادية والاجتماعية المناسبة والمحفزة لمزيد من العمل والعطاء. تلك البيئة التي نفتقدها خاصةً في (العالم الثالث) حيث يسود الثلاثي الفقر والحروب والأمراض وتنشتر الأمية نتيجة ذلك بصورة مريبة، فيتركز جل اهتمام الناس في البحث عن شيء يسدون به رمقهم. وهذا ما يجعلهم عاجزين تماماً عن الخروج بأي منتوج معرفي لإنعدام الأساس، فان حدث وسافر أحدهم إلى بيئة ملائمة كتلك التي اشرت إليها، بحيث يستطيع الحصول على كل ما يحتاجه من أساسيات الحياة، فانه لا يلبث كثيراً ريثما ينجح في مجال من المجالات العلمية والتجارب تخبرنا بالمئات من هؤلاء. وقد يسأل أحدهم هنا بان هذا التطور العقلي ما كان ليحدث لولا وجود العقل الغربي - أي أن ما حدث كان ضمن جدلية العقل الغربي؟ لكننا نقول : صحيح ان التفاعل يحدث داخل جدلية العقل الغربي، بما تم توفيره من بيئة وارضية خصبة للنمو العقلي، إلا ان ذلك لا يعدو أن يكون مجرد سبب حرك المياه الراكدة، ولا يمنع ذات العقل من أن يفكر نفس التفكير بعيداً عن هذه الجدلية أو ان ينقل تجاربه هذه لبني جلدته (في ظل بيئة ملائمة) فتتلقى ذلك وتطوره لأشياء أخرى مفيدة، كعملية أخذ وعطاء مستمرة. وذلك تأييد لما ذهبت إليه من تعليل بتأثر العقل بالبيئة المحيطة به سلباً أو ايجابا. #وهذا الأمر ينصرف عل كل بلدان العالم النامي حول العالم والدولة الإسلامية بالتحديد التي أصبحت لا تستهلك ما ينتجه الغرب فحسب، بل تحاول تقليده في كل شيء الصالح منه والطالح. # مهما يكن من أمر، فطالما كانت البيئة هي السبب الرئيسي فان التحدي الحقيقي الان يكمن في علاج ما يؤثر عليها وهو التخلص من الثلاثي الفتاك، وذلك لخلق البيئة الملائمة التي ننشدها ومن ثم بناء الدولة أو الأمة على أساس العلم، إذ لا يحسب أحد ان ما ينعم به الغرب الآن من استقرار وما وصلوا إليه من رفاهية، جاءت مصادفة، بل انهم قد مروا بظروف صعبة استطاعوا تجاوزها بمرور السنوات بحنكة وذهن متفتح أساسه المعرفة ..وقد صدق ميخائيل نعيمة عندما قال :( اذا أنشأنا المدارس اليوم، فلن نحتاج إلى الغرب غداً). # حالة الجمود الفكري هذه كانت محل اهتمام العديد من اصحاب المذاهب الفكرية المختلفة، الذين سعوا لتفسير هذه الظاهرة، ما قاد الى بروز عدة نظريات كل منها تحاول الوصول إلى السبب الحقيقي لهذا الجمود بمحاولة معرفة سببه أو أسبابه . أحد هذه المذاهب كان طريفاً للغاية ويتعارض مع نظرية ان اي حضارة تعتبر امتداد لتلك التي قبلها. وقد قرأت عن هذا المذهب الذي يرى مجموعة من رواده الغربيين انهم كشعب قد وصلوا لمرحلة الكمال العقلي - وهو سبب السطوة العلمية على كل شيء في العالم - ولم يكتفوا بذلك لبيان وجهة نظرهم بل اضافوا بان عقولهم قد استهلكت ( بضم الألف والسين وكسر اللام) ووصلت لقمة عطائها. وفسروا سبب استيعاب المؤسسات العلمية الغربية لجنسيات العالم الاخرى بان الاخيرين ما زالوا في بدايتهم يتطورون مروراً بما مروا به، وان عقولهم لم تستغل بعد ما يجعلهم مهيأين للتفكير والابتكار ولكن بعد ان توفر لهم البيئة المناسبة والمعينات التي تمكنهم من بناء الافكار وتأسيسها ومن ثم الانطلاق. # رغم ان هذا المذهب فيه تمييز واضح لإعادته طرح مسألة السمو الجنسي مرة اخرى، الا ان فيه بعض المنطق، بدليل ان مرجعيتهم هي نظرية "التطور" لداروين تلك النظرية العظيمة التي لم يستطع احد حتى الان تفنيدها بمنطق قوي أو الادعاء بعدم صحتها، فهي - بغض النظر عن اي شيء- بقيت صامدة كالجبال الرواسي لا يمسها من لغوب. وتتلخص هذه النظرية في ان الانسان يمر بعدة مراحل بدأ بالقرد الى ان يصل إلى مرحلة الكمال البشري. وأصحاب المذهب الاخير أخذوا الامر من ناحية تطور بايلوجية الدماغ البشري دون انثروبيلوجيا شكله الخارجي - أي فسروها بما يتفق مع ما توصلوا اليه من رأي. وقالوا بان عقول غيرهم - وفقاً للنظرية - لم تصل لمرحلتها المتأخرة بعد وهي مرحلة العطاء. هذا المذهب - بغض النظر عن اي اختلاف - فانه ذا منطق ولكن الخطأ فيه انه ما كان ينبغي على اصحابه أخذ الأمر من ناحيته العقلية أو أي أمر اخر ينتقص من الآخرين؛ وانما كان ينبغي ارجاع ذلك إلى البيئة المحيطة والتي ذكرنا سابقا انها تؤثر على عقل الانسان بدرجة كبيرة، حيث ان سبب نجاح غير الغربيين في المؤسسات العلمية يرجع إلى ما وجدوه من بيئة مهيأة ومحفزة. وما كانوا لينجحوا لو ظلوا في بلدانهم التي يموت فيها الناس جوعاً أو يمشون فيها جهلاً. وهذه حالة طبيعية اذ ان سوء الظروف الاقتصادية والفقر يجعلا الشخص لا يفكر في شيء سوى ما يذهب مسغبته دون ان ينصرف عقله للتفكير في شيء اخر. وعندما ينقل احدهم إلى بلاد اخرى بحيث تتوفر له اساسيات الحياة فانه حينها فقط سينصرف تفكيره إلى غير هذه الأساسيات، ويبدأ باعمال عقله في اشياء غير موجودة انطلاقاً من تلك التي وجدها أمامه مما توصلت إليه البشرية. وهنا يظهر لنا السبب الحقيقي لقابلية غير الغربيين في التأقلم ومن ثم التفوق على الغربيين انفسهم الذين تجاوزوا مرحلة البيئة وانتجوا ما انتجوه من اشياء بما كان متاحا امامهم حينها بمعنى ان عقلهم قد عمل . ليجيء الدور إلى اصحاب عقول خصبة اخرى ليدلوا بدلوهم فهو إذن تطور طبيعي متوافق مع حركة التاريخ، فالمرء لا يبدأ الى من حيث انتهى الاخرون ودوننا ما يتوصل اليه العلماء يوماً بعد يوم متحاوزين ما كان موجودا من قبل.. نخلص من ذلك ان حالة الجمود الفكري هذه لا يمكن ارجاعها لعوامل فيسلوجية أو فطرية بيولوجية او وراثية متعلقة بنقصان أو عيب في الدماغ وان هناك امة تسمو على اخرى رغم ان هذه يمكن ان تصبح أسباب حقيقية بمرور الزمان وتنقل بتشوهاتها إلى الأجيال القادمة. #وهناك العديد من الأسباب غير التي ذكرت توصل إليها مفكرين وكلها تفسر هذه الحالة؛ وكل منها يستند في دراسته على حجج منطقيه، الا ان جميعها لا تخرج من كونها نظريات علمية مجردة ودراسات غير قاطعة، والحياة مستمرة ونشهد فيها تطورات بين الفينة والاخرى تمحي أو تضيف الى ما كان موجود، الأمر الذي يجعل من غير السائغ الركون إلى تفسير بعينه لهذه الظاهرة فهي ظاهرة مرتبطة بأسباب عدة ومتشعبة -كما ذكرت. وما بروز بعض الدول الاسيوية الا دليل على ذلك، فالصين واليابان وماليزيا وسنغافورة...... الخ صارت وفي صمت اكثر تطورا، وربما نشهد مستقبلاً انتقال التطور الحضاري إليها لنرجع مرة اخري إلى تصديق من يرون ان التقدم الحضاري ينتقل من أمة الى اخرى بحيث تبدأ الأخيرة من حيث انتهت الاولى وهكذا نفس ما ينطبق على أمر تأثر العقل بالبيئة!!! محمد خرطوم / السبت 6 اغسطس 2016. [email protected]