" وَلكِن بحقِّ الله .. مَن هوَ الخُميني ؟" فرَح ديبا – أبريل 1978 (1) لا تختلف الثورة الإيرانية التي قادها الخميني عام 1977-1978 في بعض جوانبها، عن سواها من الثورات والهبات الشعبية، خاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فوصفها الإعلام ب"الربيع العربي". لقد جثمت الشاهنشاهية عقوداً طويلة وتوطد الحكم الاستبدادي في إيران، ورسخ فساده وإفساده، وداس بأحذية الطغيان الثقيلة على رقاب الشعب الإيراني، مستخفاً بإرادته ومتجاهلا رغباته في الحرية والعدل. من ضاحية "نوفيل لو شاتو"، حيث كان يقيم الخميني في أطراف باريس، صدح بدعوته لشعبه عبر رسائل "الكاسيت"، لأن يثور على الديكتاتورية والاستبداد. دعاهم لتحرير بلادهم من الهيمنة الخارجية على أقدار البلاد ومواردها. دعاهم للانتفاض لاستعادة الإرادة من أجل الحرية والعدالة. حين هبّت جماهير الشعب في العاصمة "تهران"، وضجّت شوارعها بالهتاف الداوي، منادية بإسقاط النظام بأكمله، أصاب العجز مؤسسات الدولة وتداعتْ أجهزة أمنها، ولم يبقَ ركنٌ فيها لا ينطق بسقوط الشاه، وقفتْ الشاهبانو "فرح ديبا"، عالية المقام في قصر "نياوران"، شمالي "تهران"، تتساءل: "من يكون هذا الخميني بحق السماء..؟" نجحت الثورة ورمتْ بنظام الشاه رضا بهلوي إلى مزابل التاريخ. حقّ لنا بلغة اليوم، أن نسمّي ذلك "ربيع إيراني" بامتياز. (2) لم تكن زوجة الشاه بعيدة عن الأحداث، وهي ترى زوجها يجاهد لأن يداري اضطرابه حيال ما يقرأ في التقارير التي تصله في قصره عن الاضطرابات والمظاهرات التي اجتاحت العاصمة "تهران".. كانت تدرك أنّ الأمن وحده – "السافاك " لا غيره -هو الذي يحمي التاج الشاهنشاهي وأسرة الشاه التي ولغت في فساد أعماهم عن معانات الشعب. شهرة جهاز الأمن المعروف باسم "السافاك"، طبقت الآفاق في القدرات الأمنية التي تُحصِي أنفاس الشعب، وتدوس معارضي الشاه بأحذية قاتلة لا ترحم. تلك الشهرة التي جعلت من "السافاك" جهازاً من أكفأ أجهزة الأمن والاستخبارات في العالم، حتى صار قبلة لتدريب عدد من أجهزة المخابرات في المنطقة، وتمرير خبراته القمعية إليها. من بين أجهزة الأمن التي سعتْ للتدريب في أجهزة "السافاك"، جهاز الأمن السوداني في النصف الأول من سبعينات القرن الماضي. كتب محمد حسنين هيكل، في كتابه الذي وثق انتصار الثورة الإسلامية في إيران وسقوط الشاه محمد رضا بهلوي، وعنونه: مدافع آية الله: قصة إيران والثورة، وقد صدر عام 1982: (يبدو أن الشاه قد ساورته بعض الهواجس لأنه استدعى طياره الخاص في اليوم التالي وذهبا بمفردهما في جولة بالهيلكوبتر فوق العاصمة، وكانت الشوارع مكتظة بالمتظاهرين، فسأل الشاه طياره باندهاش "هل كلّ هؤلاء الناس يتظاهرون ضدّي؟" فآثر الطيار الصمت ولكن صمته كلن كافياً، وعاد الشاه الى القصر محطما تماماً وبدأ يعتقد أنه لم يعد هناك أحد أهلاً لثقته..). (3) لربّما كان اعتقاد أكثر الثوار في شوارع "تهران"، أن الشاه غافل عمّا يجري، بسبب التقارير المضللة التي تعرض عليه، والتي لا تخبره بالحقيقة كاملة. غير أن الواقع لم يكن كذلك. إنّ مبادرة الشاه باعتلاء طائرته الهيلكوبتر، يجول بها في سماء عاصمته، ويشهد بأمّ عينيه غضبة شعبه وكراهيتهم لحكمه الباطش، يُحسب تصرفاً يحمد له. لقد أراد أن يتحرّى بعينيه ويتجاوز تقارير زبانية أجهزة الأمن وتقارير عصبته من الوزراء والتكنوقراط، ممّن حسبوا أن تزيين الصورة للشاه تساعدهم على البقاء في كراسي السلطة. أدرك الشاه ضلال تقارير أجهزته ولكن بعد فوات الأوان. أقول ثانية أن الواقع لم يكن كما حسبه الشارع الإيراني. لقد كان للرجل-وللحقيقة-أصفياء قليلون لم يبخلوا عليه في تلك اللحظات المفصلية بالنصح الصادق. من بين هؤلاء أستاذ جامعي وعالم جليل في علم الاجتماع اسمه "إحسان نراغي"، اقترب من بلاط الشاه بحكم قرابته من الشهبانو "فرح ديبا" زوجة الشاه رضا بهلوي. دارت حوارات بينه والشاه وكان حصيفاً في احتفاظه بمحاضر أحاديثه ونصائحه التي قدمها بصدق للشاه رضا بهلوي، نشرها لاحقاً وبعد سنوات في كتاب من أوثق الكتب التي تناولت تلك اللحظات العصيبة التي سبقت انهيار الحكم الشاهنشاهي في إيران. عنوان الكتاب الذي صدر بالفرنسية أولاً في باريس عام 1991، ثم عن دار الساقي في بيروت عام 1999، هو: "من بلاط الشاه إلى سجون الثورة". (4) كما يوحي العنوان، فقد دفع المثقف الناصح-ناصحاً أو غير ذلك-ثمن اقترابه من "الأمير" الظالم. لقد حسب ثوار الثورة الإسلامية أن المثقف "إحسان نراغي" واحد من أصدقاء الشاه أو هو من بين الطغمة التي كانت تحوم حول بهلوي أخريات أيامه، وقبيل خروجه من إيران. في المقدمة الذكية التي كتبها المفكر محمد أركون لكتاب "نراغي"، أشار فيها إلى علاقة المثقف بالسلطان، وأوجز ما جاء عن أبي حيان التوحيدي حول تلك العلاقة. يكتب أبو حيّان التوحيدي (922م-1023م) في الليلة التاسعة عشرة من كتابه "الإمتاع والمؤانسة"، عن العلاقة بين المواطن والسلطان، فينقل عن حميد بن الصّيمري نصحه لابنه: (اِصحَب السلطان بشدّةِ التوقّي كما تصحب السّبعَ الضاري، والفيلَ المُغتلم، والأفعَى القاتلة، واصحبَ الصّديق بلينِ الجانب والتواضع، واصحب العدو بالإعذارِ إليهِ، والحجّة إليه فيما بينك وبينه، واصحبَ العامةَ بالبرِّ والبِشْر واللطفِ باللسان) .. لقد لقي العالم الايراني "إحسان نراغي" في حواراته الناصحة مع الشاه، من شباب الثورة التي أنهت حكم الشاه، عنتاً شديداً، وما نفعه التوقي الذي التزمه، إذ قضى أشهراً في سجون الثورة الإسلامية. تلك هي ضريبة صحبة السلطان التي مثل صحبة الفيل المغتلم التي قال عنها أبو حيان التوحيدي. قليل من الطغاة من يخدمهم الحظ فيجدون النصح عند مثقف يقترب منهم، أو مثقف مفكر يصدقهم القول السديد، وقد يصادف ذلك احتمالين: إما أن يجد النصح أذناً صاغية، فيعبر السلطان إلى برٍ آمن، وإما أن يفطن السلطان متأخراً لنصيحة المثقف، فلا يكون مناص من السقوط. ذلك الخيار الأخير هو الذي انتهى إليه مصير شاه إيران، وقطعاً مصير كل طاغية يصمّ أذنيه عن المناصحة الصادقة في حينها. (5) الطاغية غير المحظوظ هو الذي يلتفّ حوله المفسدون، يزيّنون له كلّ فعلٍ يقدم عليه، ويقرعون له الطبول ليراقصونه، ولا يطلع إلا على الأكاذيب، التي تُحسن عصبتهُ في صياغتها بحذقِ النفاق وبذكاء المداهنة، فيستخفّ برعاياه ولا يرى في شقائهم وعنائهم إلا ما يطرب، إذ يحجب النفعيون وحماته من زبانية الأمن عن عينيه، حقيقة الواقع. ينطبق الأمر على كلّ طاغية جلس مثلما جلس الشاه لسنوات متراكمة، لا فرق إن كان مسلماً أم لا دينيا. الطاغية المحظوظ هو الذي ينصت للنصح قبل وقوع الكارثة. قال المثقف الإيراني "إحسان نراغي" للشاه: (الان يا صاحب الجلالة يمكننا مقارنة الوضع بحالة متسلقِ جبالٍ بقي لمدة خمسٍ وعشرين سنة، يتسلق خطوة خطوة الطريق المتعرّج المؤدي إلى قمّة الجبل-الجبل استعارة تمثل الحكم، المطلق-ثم يُطلب منه فجأة الهبوط من جديد إلى الوادي خلال وقتٍ قصيرٍ جداً. أثناء التسلق، يعرف المتسلق جيداً أين يضع قدمه ولكنه في طريق العودة يحسب أن الصخور توشك على الانزلاق كلّ لحظة تحت قدميه. كلما ازداد الهبوط سرعة، كلما زاد خطره.).. (6) لكن وكما أشار مدير عام اليونسكو الأسبق "فيدريكو مايور" في مقدمته لكتاب "نراغي": عندما توصل الشاه إلى استيعاب فداحة جرح الشعب، كان الأوان قد فات. . لقد ردّدتْ الشهبانو: "من هذا الخميني، بحقّ السماء؟"، فكان السقوط والانهيار. لعلّ علينا أن نصرخ في أذن كلّ طاغية، أن عليه أن يستوعب فداحة الجرح الذي أحدثه بشعبه، لا أن يصرخ في وجه بعض رعاياه الذين واجهوه بوسائل التواصل الاجتماعي: "ما هذا الواتساب بحق السماء ؟؟"، فيتعثر في الهبوط من قمّة جبلٍ بلغه بالقهر وبقيّ فيه سبعة وعشرين عاما. . ! +++ الخرطوم-19 ديسمبر 2016 [email protected]