في اللحظة عينها، التي همّ فيها حامد عثمان، بمغادرة شقته، في حي عين شمس الشرقية؛ عنّ له، فجأة، أن يذهب، أولا، إلى محل لبيع "اللب المملح"، في ميدان "الألف مسكن" القريب. يشتري، كما درج أحيانا، لفافة صغيرة منه، لقاء خمسة وعشرين قرشا، ثم يجلس هناك، مستمتعا بأكله، على أطراف حديقة عامة، وهو يتأمّل نهر الحياة العذب المتدفق، إذ يمر منسابا من حوله، باعتبار (وهذا تبريره للمسألة) أن التأخر بضع دقائق، عن موعد بدء اجتماع حزبي، أمر لا يُعادل خطورةَ إلقاء قنبلة، وباعتبار أن التأمّل، على ذلك النحو الآسر البديع، سيعيد له أطراف ذاته المفتقدة الضائعة تلك، قطعة فقطعة، منذ أن غادر "أرض أجداده"، قبل سنوات عديدة، على كره و"رهق". وهذا بالضبط، أو كما اعتقد حامد عثمان نفسه، بحسنِ نيّة، ما ينشده، في ثنايا الأمنيات القلبية الطيبة للمنفى، رفيق لرفيق. كان من الممكن جدا للريح أن تسير "رخاء"، لو لا أن دفع الشيطان الرجيم، الذي استخفى حامد عثمان بتأثيره دائما، بأحد أولئك العميان الثلاثة، وكان صوته كالعادة محتقنا بغضبِ رجلٍ "لم يُحظَ قطُّ بمضاجعة جيّدة"، إلى أن يقترح ضد حامد عثمان تطبيقَ إحدى أكثر العقوبات "سخفا"، في العالم. قال: "على الرفيق مسالم (وكان ذلك اسم حامد عثمان الحركي) أن يقضي نتيجة تأخّره ما تبقىَ من زمن الاجتماع واقفا"، مع أن الاجتماع اللعين نفسه لم يمضِ على بدايته الكثير. ساد الصمت، برهة. وتعب الليلة الماضية، أخذ يهبط، بغتة، بل وبثقله ذاك كله، على كيان حامد عثمان. ثم لكأن بينه وبينهم "ما قد صنع الحداد". وقد وافق الأوغاد مجتمعين، على مقترح الأعمى. كان حامد عثمان متأكدا تمام التأكد أن بعضهم، من رفاق ورفيقات، واصل الضحك، في سرّه، دون مراعاة لمشاعر رفيق مثله سار لحظتها، بأريحية تامّة، وراء رغبته الجارفة تلك، في أكل اللب المملح. الحال، لم يمض وقت يذكر، لحظة أن أخذ حامد عثمان يتساءل، بينه وبين نفسه، قائلا: "ما الذي قام بصنعه إذن ذلك الحداد اللعين فصار يضرب به المثل في العداوة؟". عادة ما كان الدخول يتمّ، إلى أمكنة الاجتماعات، وبحسب تقاليد السريّة المتبعة، بحزم ودقة، في سير عمل الحزب؛ عبر شفرات طَرقٍ محدد على الباب، مثل (طرقة. صمت. طرقتان متتابعتان. نصف طرقة)، من دون نسيان التلفت، في أثناء الوقوف القلق ذاك، على بسطة السلم، والذي غالبا ما يكون معتما. أما أزمنة الوصول إلى هذا الاجتماع أو ذاك، فكانت تفصل بينها نحو ثلاث دقائق تارة أو دقيقتان تارة أخرى أو خمس دقائق تارة ثالثة، أو لربما أحيانا أقلّ من كل ذلك أو أكثر، قليلا. فالأمر وبصراحة شديدة معقد نوعا ما. ما ظل يغيظ حامد عثمان في الأثناء بشدة: "إنّهم لا يعطونك في العادة وقتا كافيا"، بين موعدي التبليغ بالاجتماع وعقده، وذلك بالضبط ما ظلوا يبررونه، في أدبيات الحزب، بمصطلح "التدرب على مفاجأة العدو الطبقي"، ثم "لا تحاول أنت أن تستفسر، ما معنى ذلك الشيء الطبقي هنا؟، فالشيطان نفسه قد لا يعلم في نهاية المطاف ما هو المعنى الدقيق لمثل ذلك المصطلح حمّال الأوجه". هنالك حكمة سائدة (كما ظلّ يتخيل حامد عثمان في بعض تلك الأوقات) داخل مأخور منسيّ، على مشارف الحدود الجنوبية الغربية لزامبيا، حيث تكثر فواتح الشهية وتسير النساء الجميلات، في العادة، هكذا بلا حمّالات أو مشدات داعمة للصدر؛ تقول: "كلما كان غامضا، كلما كان جذابا". بالذات، أو تحديدا قبل بدء مداولات أي اجتماع حزبي عام للخلايا، لم تكن ثمة تحية حارة، قد تُسمع، مترددة، في زخم الحزبيين الهامد، ضجة حميمة، قد تنشأ خافتة، على هامش، ولا حتى همسة، قد تُزيل رهبة الصمت الماثل دوما هناك، ولا أكثر أو أقلّ، كعقوبة. مرة، والحال تلك، سأل حامد عثمان اللعين نفسه، قائلا: "ما الفرق إذن بيننا، كعضوية حزب طليعي يسعى إلى تغيير وجه الحياة نحو الأفضل، وبين جنود السلطان أغا؟" بعد قليل، تنبه حامد عثمان نفسه، بتلك الحيرة المباغتة، إلى أن التاريخ، الذي ظلّ يقرأه بإدمان، لم يذكر مطلقا سلطانا باسم "أغا" هذا. حار حامد عثمان اختلاق عقله الباطني وجرأته تلك على الدفع إلى مركز تفكيره باسم سلطان مزيف لم يكن له من وجود. سلطان حليق الذقن. لا شوارب له. وفوق هذا وذاك، له صوت غانية نسيته في إحدى تلك الليالي التي تغرّد فيها العنادل على طاولة. مع أنّ حامد عثمان، وهو يختلق وجود ذلك السلطان المزيف، كان متأكدا تمام التأكد "ولا أدري كيف" أن "أغا هذا" كان ولا بد أحد غلمان السلطان عبد الحميد الثاني، في تركيا. لا تزال أعين الرفاق والرفيقات شاخصة، لا يكاد يطرف لها جفن، وهي متجهة، في تجاورها اللصيق المتظاهر بالغرق في جديته، إلى صدر الصّالة الواسعة، حيث يقبع وراء منضدة خشبية صغيرة تدعى "المنصّة"، رئيسُ الاجتماع، الذي يتخذ من "البحر"، ربما لولادته عند أطراف صحراء العمور، اسما حركيا له. كان البحر (هذا النحيف كسلك الكهرباء) يجلس لحظتها متوسطا المتحدثين الرئيسيين حرية والعامل، وهما زائران حزبيان رفيعان "متفقدان"، كما قيل، وقد قَدِما، في تلك الأيام، مما يسمّى "المركز القيادي للحزب"، وإذا رأيت "حرية" اللعين ذاك، لا بد أن أول ما يتبادر إلى ذهنك لحظتها أن تسأله عن أخبار الأبراج والنجوم وحركة الكواكب الدوارة في الفضاء، لأنّه كان طويلا جدا، أما "العامل"، فقد كان على النقيض تماما، وإن كان لا بد والحال تلك أن تسأله على الأقل من باب اللياقة أو العدل، فعن أخبار الديدان والحشرات وربما كذلك عن اختلاجات البراكين في الأسفل، لأنّه كما يمكن أن يستشف كان أقصر قامة حتى من نواعم السمسارة. وما كان هناك ما يُوحد بينهما، سوى تبادل الغضب والوجوم، على وجهيهما، في أثناء شروع البحر، في تذكير حامد عثمان اللعين، أو للدقة "توبيخه"، على الحضور متأخرا. كان البحر الذي من عاداته الضغط، حتى في أكثر لحظات أُنسه صفاء، على الأحرف بأسنانه، كما لو أنّها قطع لحمٍ جاف؛ يواصل مخاطبته تلك لحامد عثمان، من دون أدنى تحفظ، أي بالعجرفة نفسها "المخوَّلة حزبيا لوغد"، قائلا: "دقيقة تأخير واحدة (يا رفيق مسالم)، يمكن (كما تعلم أنت ذلك بنفسك سلفا) أن تضع جسد هذا الحزب العظيم برمته على محك المداهمة، أو الخطر، ثم أين أضعتَ حسك الأمني، يا رفيق؟". وهزّ البحر رأسه علامة استنكار أخرى. كما لو أن كل لسانٍ آخر هناك قامت القطة بالفعل بأكله. أو كما لو أنّه بدا من المهم لحظتها بالنسبة للقطيع أن يراقب بحرص مجريات مذبحةٍ ما، قد تشعره في الأخير بتفوقه ربما، أو يقينا بسلامة بنيانه المرصوص المتماسك. الصمت يطغى إذن ويخيم. لا شيء آخر هناك سوى حضور ذلك اللوم العالق كحبل مشنقة أسطوريّ وهو يتمدد أكثر فأكثر صامتا في الهواء الميّت للصّالة. أما أنا (شكر الأقرع) فأقول "الآن" لا مراء أن الهدوء يسبق العاصفة. حين لم يتطوع أحدهم بعد، ولم يبدُ حتى على البحر كسائلٍ ما يفيد أنّه بانتظار إجابة ما، وقد ظلّ يتابع تأنيبه بعينيه هذه المرة في عمق الصمت الماثل ذاك نفسه، رأى حامد عثمان أخيرا أن يخدع السائل اللعين هكذا، بابتسامة مداهنة، كما لو أنّه يترجاه من صميم قلبه، وكان بالفعل كذلك، ألا يتمادى، في هجومه أكثر، خاصَّة في ظلّ ذلك الحضور العذب الرقيق للرفيقات، مع أنّ حامد عثمان كان يعلم تمام العلم أنّ البحر هذا ابن زانية حقيقي، إذا ما بدأ بنتف ريش رفيق، فالشيطان وحده يعلم متى وكيف سيتوقف، في الأخير، عن بثّ سمومه القاتلة. وقد بدا البحر راغبا في المقابل وطوال الوقت في مواصلة الهجوم الكاسح، أو كما لو أنّه نسي أن يسأل حامد عثمان مبكرا في البداية عن سبب تأخره، تمشيّا (على الأقل) مع حكمة آبله وداد الناظرة تلك القائلة: "الغائب عذره معه". لو تمّ سؤال حامد عثمان وقتها بالفعل من قبل "البحر" هذا، عن سرّ تأخره ذاك، لأجاب حامد عثمان، بمثل ذلك النقاء الممنوح لثوريّ ناصع الطوية، من طينة جيفارا الأصلي، قائلا: "كنت أعمل على ترميم ذاتي بأكل اللب المملح، وهذا كل ما في الأمر، يا رفيق". لا بد أنّ الشيطان كان سينفجر دفعة واحدة بالضحك. لأن البحر هذا كان سيُصاب في أعاقبها أو حالا بسكتة قلبية. حار حامد عثمان ما وجب عليه القيام به، لوقف هجوم البحر الشامل ذاك، والذي سرعان ما أخذ يتحول إلى تشهير، إلى أن عنّ للضحية أخيرا أن يستدعي قارب إنقاذ آخر يدعى "الجلد الذاتي". فقال: "أدين ضعفي الحزبي طبعا. واعتذاري هنا موجه لسواد الكادحين في الوطن. أما أسفي العميق، فكذلك لثوار العالم قاطبة. أي حيثما وُجِدوا، سواء في أحراش أمريكا اللاتينية، أو مزارع الأرز في بورما، أو قصب السكر على الحدود الشرقية لكينيا الحبيبة". وليت حامد عثمان اللعين لم يتفوه بعد بكلمة واحدة. ما أن خرج صوته معتذرا، على ذلك النحو، حتى استطاع أحد أولئك العميان المتربصين به لسبب لا يعلمه سوى الشيطان تحديدَ موقعه ببراعةِ خفّاش. وقد ظلّ الأعمى يبحث عن الموقع الدقيق لحامد عثمان، في أثناء تعنيف البحر له، عن طريق إدارة رأسه، عبر حركة نصف دائرية بطيئة، كما لو أنّه طيّار في مناورة حيّة، وإلى أن أنهى الاجتماع أجندته، لم يقم الأعمى "اللعين"، بتحويل وجهه الغاضب المتجلد ذاك، عن وجه حامد عثمان، لحظة. كذلك، واصل حامد عثمان قضاء عقوبة التأخر واقفا. كان يرمي بثقله، مرة على قدمه اليمنى، ومرة على قدمه اليسرى، ومرة ثالثة على الاثنتين، في توازنِ راقص سيرك على شعرة ممتدة عبر فراغ سحيق، وقد بدا له من محاولات صنعهم من الحبة قبة، عند كل مسألة مثارة، كما لو أن اسهالا أصاب أفواههم. "الأوغاد"، قال حامد عثمان في نفسه. وتابع بسخطه الجارف الكظيم ذاك، قائلا: "لا يتوقفون أبدا عن الكلام". ثم.. أو بحسب خبرته العملية تلك، يستطيع حامد عثمان هذا أن يزعم الآن أن أي وغد، في هذا العالم الفصيح برمته، لن يستطيع الاستمرار، في قفل فمه، لأكثر من دقيقة واحدة، خاصة إذا كان جالسا والمستمعون إليه وقوفا. "أراهن على ذلك". لا بل "أنا متأكد من صحة زعمي هذا". اللهم إلا إذا رغبتَ أنت نفسك في الخسران. حتى أنني شرعت أتخيل (يا شكر الأقرع) أنّ أي وغد ثرثار متفاصح بغض النظر عن حقيقة كونه أعمى أو مبصرا أو حتى أعور ينام ولا بد بفم مفتوح على اتساعه". مرة، في أثناء اجتماع عام آخر للخلايا، "أسقط سلطان النوم أحد أولئك العميان الثلاثة"، فكان ذلك بمثابة الدليل القاطع، الذي لا يدحض، على صدق نظرية حامد عثمان تلك. والتي أسماها في لحظة تقعر، ما نصّه: "ديالكتيك النوم/ الوغد/ الفم المفتوح"، أي تمشيا شكليا بحتا ولا بد، مع "ديالكتيك العبد/ السيد"، للمدعو "هيجل". ما ظلّ يثير الاستياء لدي حامد عثمان، في أثناء مجريات تلك الواقعة المخالفة قطعا للوائح، أن حضور ذلك الاجتماع، من الرفاق والرفيقات على حد سواء، كانوا يتصرفون، كما لو أنّ سلطان النوم، لم يسقط ذلك الأعمى، بالضربة القاضية. بيد أنّ حامد عثمان التزم الصمت بدوره، ولم يبدُ عليه كذلك في الظاهر أنّه قد فطن أن الأعمى غرق تماما في الشبر المتاح من بحر النوم. لأن حامد عثمان كان وببساطة شديدة ممتلئا، بهراء حججهم المعتادة حد التخمة أو الترفع، وفي مثل تلك الأحوال، كانوا حتما سيقولون له توددا ولا بد للأعمى اللعين: "عجبا، يا رفيق مسالم، فالمرء يغلق عينيه أحيانا ليس من نوم، بل لأنّه سيّان في بعض الحالات إن فتحهما أو أغلقهما". ومع ذلك، وهو لا يزال في حال غليان تأمّلاته الصامتة تلك، قرر حامد عثمان ألا يسألهم أبدا إذا ما تمادوا وحاولوا أن يجادلونه كذلك نافين وجود ذلك الشخير المسموع، بأكثر حتى مما يُسمع سعال مريض بالسلّ، والذي ظلّ يصدره الأعمى في حينه، ومهما بدا مثل ذلك الشخير مغريا بالحديث عنه، كحجة لا تقبل الدحض. فهو (حامد عثمان) وهم كذلك كانوا بالفعل يدركون جيدا في قرارة أنفسهم أن عداوة الأعمى هذا بالذات لا تحتمل. تماما كما لو أنّك تمد يدك عن طواعية وربما استخفاف لا يغتفر نحو أسنان تلك الأرملة المهتاجة المنتقمة لذكرِ أفعى الكوبرا. وذلك بمثابة الأمر المخيف حقا، بل القاتل، حتى بالنسبة لرفيق آخر، في "قامة البحر السياسية". لقد كان يكفي تماما أن يقول عنك هذا الأعمى في مجلس للأنس إنّه رأى أختك في مأخور. ليُحكم عليك في الحال ودون الحق حتى في "الإستئناف" بقضاء ما تبقى لك من عمر في محاولة إثبات أنّك جيئتَ، "في الواقع والحقيقة"، إلى هذا العالم وحيدَ أبويك، وأن أبوك عبد المتعال مات بعدها مباشرة، وأن أمّك زينب بنت الحاج عمران لم ترتبط بأي رجل آخر، إلى أن توفاها الله، في أثناء النوم. [email protected]