"نسبة التدمير والخراب 80%".. لجنة معاينة مباني وزارة الخارجية تكمل أعمالها وترفع تقريرها    التراخي والتماهي مع الخونة والعملاء شجّع عدداً منهم للعبور الآمن حتي عمق غرب ولاية كردفان وشاركوا في استباحة مدينة النهود    وزير التربية ب(النيل الأبيض) يقدم التهنئة لأسرة مدرسة الجديدة بنات وإحراز الطالبة فاطمة نور الدائم 96% ضمن أوائل الشهادة السودانية    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    "قطعة أرض بمدينة دنقلا ومبلغ مالي".. تكريم النابغة إسراء أحمد حيدر الأولى في الشهادة السودانية    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صيغة جديدة للدولة والعيش السلمي المشترك.. المستقبل لدولة اللا هوية.. (رؤية للنقاش الحر)
نشر في الراكوبة يوم 07 - 04 - 2017

في الحرب الباردة تكمن أعظم أسرار التحولات السريعة المؤلمة الجارية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا!.
السبب بسيط ولكن كثير من الناس قد لا يأبه به لاننا مغيبون في التفاصيل كما أن الناس في العادة تبحث أولاً عن الحلول العاجلة للأزمات في حل عن فهم الأسباب الجوهرية وهذا ربما خطأ!.
ازعم انه ان فهمنا خلفيات ومعطيات "الحرب الباردة" سنفهم الأزمة وعندها ربما تجلى أفق الحلول أكثر وضوحا!.
الحرب الباردة طبعا بين المعسكرين الشرقي والغربي التي إنتهت إجرائياً عام 1989 بإنهيار الإتحاد السوفيتي، وكان على أساسها يتقسم العالم في محورين متناحرين لمدة نصف قرن وأكثر: معسكر إشتراكي روسي وآخر رأسمالي أمريكي غربي.
وكذلك تقسم الأقليم الذي نعيش به أيضاً على ذلك الأساس ولو بدرجات مختلفة لكن الصبغة الأساسية لا بد أن تكون غالبة.
والحرب الباردة في الحقيقة لم تكن باردة إلا بين أطراف المنشأ (السوفيت وامريكا/الغرب) بل في الحقيقة كانت حرب مادية وفعلية ساخنة عمت معظم أركان الكرة الأرضية. و راح ضحيتها ملايين الناس في آسيا وأفريقيا ولاتن أمريكا: انقلابات عسكرية دموية وحروب أهلية وحروب بين دول الوكلاء: حرب أفغانستان اعظم مثال كما العراق وإيران والعراق والكويت والأحداث الدامية التي جللت وجه المشهد اللاتيني "هنا نذكر تشي جيفارا". والآن هناك حرب في اليمن وحرب في سوريا وحرب في السودان وحرب في ليبيا وحرب في العراق وأزمة في لبنان وأزمة في فلسطين وحركة الإخوان المسلمين في مصر تخطط لذات السناريو القديم المتجدد!. كل ذلك يجيء على خلفية الحرب الباردة.. وروسيا الآن تدخل بجيشها سوريا وسبقتها أمريكا إلى العراق وأمريكا ذاتها تضرب سوريا بالصواريخ.. وبقية الأفق واضح للعيان!.
لننظر الان لوهلة في الأزمة الشاملة من الداخل ثم نقترح الحلول!.
أرى ان خطوط الصراع في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا اربعة.. وأهمها الخطان الأول والثاني (يأتي تفصيله ادناه) وهما الخطان المتضادان والمتصادمان بشدة ويمثلان حمى الحرب الباردة بجدارة. وما يزال الصراع بينهما جاريا!
الخط الأول العربي/السلفي: رأسمالي متحالف مع المعسكر الغربي الأمريكي (عنده العروبة عرق وليست أيدولوجيا، الآيدولوجية هي الدين الإسلامي بنسخته الوهابية ).
ويضم: دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية الوهابية مع الامارات/عمان/الكويت/البحرين/قطر مع إضافة المملكة الأردنية الهاشمية لتشابهها في النظام السياسي والاجتماعي والتاريخ كما اضافة إسرائيل، إسرائيل ايضا مشابهة لدول هذا الخط الاول (إسرائيلً سلفية يهودية كما رأسمالية/أمريكية). وهذا الخط يتميز الآن بالتماسك النسبي لأنه ما زال تحت الرعاية الأمريكية المباشرة مع تفاوت في درجة الاهمية بين اقطاره المختلفة ومع حساب المتغيرات الاقليمية والدولية.
عند هذه اللحظة اود ان اقول بملاحظة استباقية ثم نواصل قراءة الخطوط الاخرى:
هنا لا توجد أحكام قيمية أو تخيلية أو ادانات أيديولوجية مجانية لطرف من الأطراف دون الآخر وإنما محاولة موضوعية و محايدة لقراءة الواقع!. كل الأطراف كانت منحازة لأحد المعسكرين وما فيش حد أفضل من الاخر لمجرد جريرة الانحياز كون الاستقلالية شبه مستحيلة أيام الحرب الباردة، إذن انت بلا حماية وربما مهدد بالفناء. . المحاولة الوحيدة في البحث عن طريق ثالث كانت محاولة خجولة ومتواضعة تمثلت فيما سمي بدول عدم الانحياز.
الخط الثاني: إشتراكي عروبي (العروبة لدى هذا الخط آيديولوجيا وليست بالضرورة عرق، آيدلوجيا ذات محتويات إشتراكية علمانية).
ويضم: العراق وسوريا ولبنان وفلسطين ومصر والسودان وليبيا واليمن.
وهذا الخط يعاني الآن من التفكك بالرغم من تقدمه في مستوى كفاءة الإنسان "الفرد" في مجاله مبررا بانفتاحه الأسبق على الآخر وعبر الاستعمار ثم التداخلات الإقتصادية والثقافية مع اوروبا وما يتبع ذلك من مؤثرات الحداثة والتعليم الحديث والسوق العالمي والمجتمع المدني!. ولهذا ظل الخط الثاني هذا يبيع الكفاءات البشرية للخط الاول بالمال وبعضه يبيع أيضا الجنود المقاتلين.
ارجو هنا ان تتذكرو معي التفاصيل التالية (فيما يتعلق بالخط الإشتراكي العروبي):
العراق (البعث العربي الإشتراكي) وسوريا (البعث العربي الإشتراكي) ولبنان (علمانية/إشتراكية) وفلسطين (جذور منظمة فتح إشتراكية عروبية وابو الثورة الفلسطينية جورج حبش ماركسي لينيني) ومصر (ثورة 1952 عروبية إشتراكية إستمرت حتى 2011 وعادت من جديد في عهد السيسي في ظرف تاريخي جديد مختلف) ليبيا (الجماهيرية العربية الإشتراكية العظمى) والسودان (ذات نزعة إشتراكية عروبية وكان الحزب الحاكم في عهد نميري إسمه الإتحاد الإشتراكي) مع إضافة اليمن إلى هذا الخط فهي ذات نزعة إشتراكية عروبية معادية معظم الوقت للخط الاول الرأسمالي السلفي.
الخط الثالث: المغرب العربي "لبرالي في المجمل تحت الرعاية الفرنسية" مع تمايز ات مقدارية بين اقطاره.. يتميز الآن بالتماسك النسبي . ويتكون من تونس والجزائر والمغرب العربي وموريتانيا.
الخط الرابع: مجمل أفريقيا "تحرري/إشتراكي/بان أفركان متحالف مع الخط الثاني "العروبي الإشتراكي" انظر مبادئ الثورة المصرية والإجتماعات واللقاءات التي تمت بين قيادات البان أفركانزم وجمال عبد الناصر والسادات والنميري والقذافي مثلاً. وكان ذلك بدفع ايديولوجي إشتراكي ذاتي او/و تنسيق روسي مباشر.. ونجد في السودان حتى الآن معهد بإسم القائد الأفريقي الإشتراكي المعروف لوممبا يقف جنبا إلى جنب مع رموز عروبية/إشتراكية أخرى كما أن جميع أحزاب البعث العربية ممثلة في السودان بالإضافة إلى الحزب العربي الناصري ويقال أن أقوى أحزاب المنطقة الإشتراكية هو الحزب الشيوعي السوداني.
الخطان الأول والثاني كانا وما زالا في صدام وعداء مفرطين خفيين وعلنيين كل الوقت ضد بعضهما البعض وحتى بعد إنتهاء الحرب الباردة.
الآن بعد إنقضاء عقدين من الزمان ما زال أثر الحرب الباردة يفعل فعله لأن هناك خطة مسبقة بعيدة الأمد جارية التنفيذ. تلك الخطة عندها مبرراتها السياسية والأخلاقية وميزانيتها المرصودة سلفاً بغرض تحييد أو هزيمة الطرف الآخر.
هناك أدب كثيف يعبر عن العداء بين الطرفين واعمال استخباراتية وتجسسية ومؤامرات وحفر للآخر وهناك تغلغات لاجسام شرعية أو غير شرعية كالتيارات السلفية وحركة الإخوان المسلمين مدفوعة من الخط الأول تجاه الخط الثاني والعكس أجسام علمانية وحركات لبرالية واشتراكية جرت في الخفاء والعلن من الخط الثاني تجاه الأول. وهناك ربما اشياء افدح من الظاهر حدثت وتحدث بين الخطين المتصادمين حتى اليوم.. وهناك طبعا التداخلات الموجبة الحتمية بين الشعوب وفق أحكام الضرورة.
وإن أنتهت الحرب الباردة اجرائيا فالصراع على السيطرة في الأقليم الشرق أوسطي كما أفريقيا لم ينتهي وما زال قائماً لان هناك أهداف ودوافع مادية وموضوعية حتمية وما زال ذات الطرفان أمريكا وروسيا يحاولان بشتى السبل الممكنة إعادة تشكيل المنطقة بما يكسبهما أكبر قدر ممكن من المصالح الإقتصادية مع مرعاة أثر اللاعب الجديد القوي "الصين".
والنتيجة أن العروبية الإشتراكية التي كانت تعمل على الوحدة عبر العنف في البلد الواحد والوحدة عبر التفاوض مع الدول الأخرى تراجعت قوتها وفاعليتها امام ضربات المعسكر الغربي ووكلاءه في المنطقة. و تجلت انجع وسائل المعسكر الغربي في تفتيت حزام الإشتراكية في تصحية النزعات التفصيلية "الدينية والطائفية والعرقية والتاريخية لشعوب المنطقة" بهدف تفكيك الدول والأنظمة. وعندك الطوائف الشيعية/السنية في العراق وتصعيد النزعات العرقية والقبلية في السودان وليبيا واليمن اضافة الى تغلغل الحركة السلفية المعادية للقيم الاشتراكية في كل الخطوط الممكنة وحتى الخط الافريقي المجمل عاني من ذات الشيء وهو ما يفسر الحروب الاهلية في افريقيا وتمدد السلفية التي نجد احدى تجلياتها الان في جماعة بوكوحرام.
ويبدو ان الخطة الأمريكية قد حققت غايتها على الوجه الأكمل عبر وكلائها في الخط الأول السلفي الرأسمالي وهم (الخليج/الأردن/إسرائيل) بينما أضطر الإتحاد السوفيتي الجديد بقيادة بوتين في حلمه إلى إستعادة أمجاد الحرب الباردة للمجيء بجيشه للمنطقة لحماية إحدى أهم حلفاء حزام الإشتراكية "سوريا". ومصر ليست بعيدة عن العين كونها في إنسجام تاريخي مع الحليف الروسي ولا بد أن نذكر هنا السد العالي وعدد من المشروعات الإقتصادية الحيوية في مصر تمت بتعاون روسي وأن الجيش المصري حتى الآن وبعد أكثر من ثلاثين عاما من إتفاقية كامب ديفد ما زال تسليحه في الاساس روسيا.
الرأسمالية الغربية نجحت في تصحية النزعات التفصيلية في الكتلة الواحدة "الدولة" مما قاد إلى سؤال الهوية "من أنا، من نحن، من أنتم من هم" في الخط الثاني "العروبي/الإشتراكي".
في الماضي كانت الإشتراكية والعروبة هي الآيدولوجيا المعبرة عن أحلام وأشواق وآمال غالبية الناس في التحرر والإستقرار والوحدة والرفاهية "انظر الشعوب الواقعة تحت الخط الثاني". وقلنا ان العروبة هنا آيديولوجيا وليست بالضرورة عرق وقد ضمت تحت لوائها بمحتوياتها الإشتراكية: العرب والعجم والكرد والنوبة والسنة والشيعة والمسلم والمسيحي والملحد.
تراجع الإشتراكية والخطوط الفاعلة التي تمثلها هو السبب الجوهري في تفكك معظم دول الخط الثاني والخطة عمرها هو عمر الحرب الباردة!.
إعادة تشكيل المنطقة من جديد أمر حتمي ولا بد أن يحدث نسبة لإنتهاء الحرب الباردة وتراجع الوعي العروبي الإشتراكي. كون الناس ربما شعروا في الحقيقة أو الوهم أن مصالحهم الذاتية تتحقق بشكل أفضل "من وجهة نظرهم" عبر الإندغام مع هوياتهم الخاصة في حل عن أي آيدولوجيا كلية أو دولة يرونها تضطهد حقوقهم المادية والمعنوية.. لقد هزمت أو تلاشت الدعوات الكلية الجامعة المتكأة على الإشتراكية/العروبية وأصبح فراغ الهوية الكلية سيد الأفق!.
وأرى أنه كي نستطيع الخروج من المأزق التاريخي لا بد من البحث عن صيغة جديدة للدولة لا تتكئ على هوية كلية مثل العروبة أو الإسلام ولا هوية جزئية كالقبيلة أو الطائفة.. دولة الهوية فشلت أمام اعيننا!.
لا بد أن نفكر في طريقة جديدة للدولة.. دولة بلا هوية كلية ولا جزئية (بلا هوية مطلقا) وإنما فقط عقد إجتماعي يقوم على رعاية المصلحة المادية والمعنوية للناس وفيما بينهم والكل يملك هويته الخاصة كما يشاء في حيزه الجغرافي "الدولة"، وكحق أصيل مثله والطعام لكن لا أكثر من ذلك، أي لا قداسة للهوية.!.
أرجو هنا أن ألفت الإنتباه من جديد إلى رأيي الخاص الذي طال ما كررته لمن يقرأني من الناس أن (فصل الدين عن الدولة) يظل مفهوماً قاصرأً والأصح عندي فصل الدولة عن الهوية.
إذ أن الفهم العلماني السائد عن "فصل الدين عن الدولة أو السياسة أو كليهما" مضلل في السياق التاريخي لمجتمعاتنا الشرقية والصحيح فصل الدولة عن الهويات كلها لا الدين وحده. فصل الدولة عن الدين والعرق والتاريخ.
مفهوم فصل الدين عن الدولة صحيح في مرحلة التطور الغربية فقط بحيث ان دولة المواطنة في الغرب متحققة بالفعل في عين الوجود على أسس محسومة تجاه العرق والتاريخ حينما صعد سؤال الدين. إذ كانت دولة لا عرقية ولا تاريخية دولة عقد اجتماعي: دولة المواطنة في حيزها الجغرافي والإداري ولو قامت في البدء على عرق واحد، لا يهم!.
اما نحن في الشرق فما نزال نعيش عهد الدولة التاريخية ذات الدين الواحد والعرق الواحد والتاريخ الواحد بل الأسرة الواحدة المالكة/الحاكمة فقط بدرجات مختلفة بين دولة وأخرى لكن الامر واحد. تلك كانت على الدوام الصيغة الوحيدة لدولة التاريخ القديم في كل أنحاء العالم وبلا استثناء.. مثل هذه الدولة لم يعد يسعها أفق الإنسانية في عصرنا الراهن ولا تستطيع النهوض بمجتمعاتها التي أصبحت أكثر تعقيدا من ماضيها ! .
الآن نرى باعيننا مثلا في سوريا ومصر والإمارات والمغرب أن الدين مفصول عن الدولة إلى حدود معقولة لكن العلة قائمة!.
كون الدولة في كل من الحالات المذكورة غير مفصولة عن العرق (سوريا العربية، جمهورية مصر العربية والامارات العربية المتحدة والمغرب العربي على سبيل المثال). السؤال ما الحاجة الان لتعريف الدولة باسم عرقها الحقيقي أو المتصور؟. في الماضي كان الهدف الوحدة في أمة واحدة ذات دين واحد وعرق واحد غالب.. هذه الدعوة تلاشت عمليا.. وحلت محلها الآن هويات تفصيلية.. سيكون من الخطأ الجسيم غض الطرف عنها كون ذلك سيقود حتما إلى مزيد من التفتت والاضعاف السياسي والاقتصادي للدولة الواحدة في ذاتها والمجتمع الواحد في ذاته والاقليم في كليته.. الواقع الآن يحدثنا بذلك!.
أعني ان اي دعوة بإرجاع الدولة الي عرق أو جهة محددة "العربية او الأفريقانية او النوبية/الفرعونية مثلا" كله وجب أن يكون مرفوضاً مثله والمرجعية الدينية. الدولة وجب أن تكون مفصولة عن العرق والا فإن النتيجة ذاتها تكون مثلها و الدولة الدينية منحازة إلى نخبة العرق المحدد فعليا ورمزيا او كما يحدث الآن في ارض الواقع بوعي منا أو لا وعي.
كما وجب أيضا فصل الدولة عن التاريخ (مافيش مفترض حاجة اسمها مصر فرعونية أو قبطية او السودان كوشي/نوبي أو العراق اشوري مثلا، كله خطأ). بناء هوية للدولة على اساس من انجازات التاريخ (الحضارات السابقة) أيضا قد يتضمر الإقصاء لجماعات قد لا تشملها الحضارة التاريخية أو هي لا تشعر بذلك.
كما أن الفخر بالحضارات السابقة يعتمل تمييز مسبق ضد البشر الآخرين!. الحضارات السابقة كلها ومهما كانت وجب ان ينظر لها كإرث إنساني مطلق لا شي غير ذلك من حيث الرمز ويستفاد منها في الاقتصاد والسياحة والتاريخ والعلم. والإنسان هو الانسان بحضارة سابقة أو راهنة أو بلا حضارة في الحقيقة أو الوهم.. الانسان انسان وجب أن يكون مساو في الحقوق والواجبات.. الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يقول بذلك وهو من أخص مبادىء الإنسانية كما المواطنة السوية!.
الدولة وجب أن تكون محايدة تماماً تجاه الدين والعرق والتاريخ وتلك هي العناصر الأولية للهوية المطلقة. أي شكل من أشكال الهوية يتم تبنيه بواسطة الدولة يتضمر بالضرورة قدرا صغيرا أو كبيرا من الإقصاء للآخر من المواطنين مما يجعلنا نعيش دائرة شريرة غير منتهية من نزاع الذات.
الدولة العصرية التي تستطيع أن تسعنا جميعا في سلام بكل تنوعنا المحتمل في المقدار والنوع وجب أن تكون "دولة اللا هوية". دولة محايدة عن الهويات المجتمعية دولة المواطنة دولة العقد الاجتماعي دولة العيش السلمي المشترك فحسب. تلك هي الصيغة الجديدة التي أتمنى أن نفكر فيها بجدية!.
والناس تمارس هوياتها الذاتية في الفضاء الاجتماعي كما تشاء وفي حرية تامة.
ربما كان ذلك خياراً غير مفكر به من الأغلبية وصعباً عند البعض وربما يبدو معقداً حين النظر إليه أول وهلة لكنه عندي هو حتمية الواقع المشبع بالألم والدم كون الناس في زمن اللا عدالة تستخدم هوياتها الخاصة في حربها مع هوية الدولة المنحازة بالضرورة مهما ادعت الحياد!.
أرى أنه كي ينحل ويتحلل التناقض الفظ القائم في ارض الواقع لا بد أن تقوم الدولة على مبدأ "اللا هوية" وبصورة أكثر الحاحا في الخط الثاني "الخط الإشتراكي تاريخياً".
كون الخط الأول ما يزال على المستوى السياسي والآيديولوجي متماسك إلى حد معقول ولو موقت على أسس الدولة التاريخية ذات الهوية الواحدة وتحت الحراسة الامريكية المكلفة. وهي بعد دولة لا مستقبل لها، وأتوقع أن دول الخليج ستقتفي كقسرية تاريخية أثر الملكيات الأوروبية الغربية أي انها ستتحول عاجلاً أم آجلاً إلى ملكيات دستورية إن نفدت من الموت الذي قد تحتمه لحظة التشكل الجديدة !.
هنا دعوة للنقاش الحر حول استحداث صيغة جديدة للدولة العصرية في عالمنا المعاصر.. دولة اللاهوية: كيف نأسس لها ثقافتها واطرها القانوية ونجعلها واقعا معاشا!.. وذلك على أمل أن نحقق القدر المطلوب من أجواء العيش السلمي المشترك لنا ولأجيالنا المقبلة ولمصلحة الجميع.
الأجيال الجديدة (في زمان العولمة هذا) منوعة الحاجيات والخيال بدرجة لا مثيل لها في التاريخ.. يمكن أن تلمس ذلك في وسائل التواصل الاجتماعي.. هذا التنوع الكثيف يتطلب صيغة دولة جديدة محايدة تجاه أذواق وهويات الناس الذاتية والجماعية.. إنها دعوة مني للنقاش الحر!.
محمد جمال الدين .. لاهاي/هولندا
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.