كلية الارباع لمهارات كرة القدم تنظم مهرجانا تودع فيه لاعب تقي الاسبق عثمان امبده    بيان من لجنة الانتخابات بنادي المريخ    بيان من الجالية السودانية بأيرلندا    رواندا تتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة لاستقبال ما يصل إلى 250 مهاجرًا    يامال يثير الجدل مجدداً مع مغنية أرجنتينية    شاهد بالفيديو.. السيدة المصرية التي عانقت جارتها السودانية لحظة وداعها تنهار بالبكاء بعد فراقها وتصرح: (السودانيين ناس بتوع دين وعوضتني فقد أمي وسوف أسافر الخرطوم وألحق بها قريباً)    شاهد بالصورة.. بعد أن أعلنت في وقت سابق رفضها فكرة الزواج والإرتباط بأي رجل.. الناشطة السودانية وئام شوقي تفاجئ الجميع وتحتفل بخطبتها    البرهان : لن نضع السلاح إلا باستئصال التمرد والعدوان الغاشم    وفد عسكري أوغندي قرب جوبا    تقارير تكشف خسائر مشغلّي خدمات الاتصالات في السودان    مجاعة تهدد آلاف السودانيين في الفاشر    تجدّد إصابة إندريك "أحبط" إعارته لريال سوسيداد    توجيه الاتهام إلى 16 من قادة المليشيا المتمردة في قضية مقتل والي غرب دارفور السابق خميس ابكر    لدى مخاطبته حفل تكريم رجل الاعمال شكينيبة بادي يشيد بجامعة النيل الازرق في دعم الاستقرار    عثمان ميرغني يكتب: لا وقت للدموع..    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    الهلال السوداني يلاحق مقلدي شعاره قانونيًا في مصر: تحذير رسمي للمصانع ونقاط البيع    "ناسا" تخطط لبناء مفاعل نووي على سطح القمر    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    تيك توك يحذف 16.5 مليون فيديو في 5 دول عربية خلال 3 أشهر    صقور الجديان في الشان مشوار صعب وأمل كبير    الإسبان يستعينون ب"الأقزام السبعة" للانتقام من يامال    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غناء على "سرير الغريبة"
نشر في الراكوبة يوم 04 - 07 - 2017

تجاوزا ميدان طلعت حرب للتو، عندما أخذت تُخايله مشاهد رفقتهما، هي وجمال جعفر، أسفل أشجار البونسوانا، عند بدايات ذلك الغروب البعيد، حيث تبدل ليلتها (يا حامد عثمان) مسار حياة كاملة، ولم تعد فتاة أحلامك، بكلمة واحدة: "عذراء". وقتها، بدت لعينيك، وأنت تقف في المحطة قبالة عمارات الميريلاند منتظرا وصول الأتوبيس كي يقلّك إلى ميدان الألف مسكن، ومن كل ذلك البعد، كما لو أنّها تغني من عذوبة الحبّ بمشيتها، بينما تسير الآن، إلى جوارك، أنت "آكل فضلات الرجال لاحقا ولا بد"، محاطة تماما، بالنميمة وسوء السمعة وأشباح غدر "الرفيق". عذّبته هذه الخواطر، في ظلّ صمتٍ كثيفٍ بدا مباغتا، واستمرتْ في مناوشته، حتى كاد، عند عبورهما، من أمام واجهة حلويات "الصمدي"، أن يُفسد بهاء اللحظة التي حلم بها طويلا، ويقع هكذا، دفعة واحدة، فريسة سائغة لأرق "الذكريات السيئة"، لو لا أن علا صوتها هي، عند مطلع شارع عبد الخالق ثروت، قائلة:
"أحقا!! لا تدري أين هو النادي اليوناني بشارع عماد الدين، يا حامد"؟
بدأ نهدها الأيسر يلامسه.
يبتعد. يتوارى للحظة بين زحام المارة. يعود. وإذ يستقر ثانية بنعومة دفئه الخاطف. يفر فيعود ليفر مجددا. وكان هو ينسى في كل مرة ما كان للتو بصدد قوله لها. لقد كان الأمر لحظة أن يتأمّله حامد عثمان نفسه لاحقا أشبه بالعلامات التي تسبق اندلاع الحرائق الكبرى. الذكريات السيئة لم تعد تعاوده طوال ما تبقى من طريق. وحتى عبرا بوابة النادي اليوناني الأثرية داخلين معا. أما مها الخاتم، فقد بدا لها جليّا، في الأثناء، هي الأنثى المجرّبة، أنّ لمسة النهد قادرة وحدها، كسلاحٍ خفيف، على أن تزلزل عرش ثبات رفيقها الجديد وتربكه، على هشاشته الصبيانيّة البادية.
هناك، داخل النادي اليوناني، وهو يتبعها هذه المرة كطفل، اختارا مائدة، في ركن قصي، من تعريشة صيفية ملحقة بالنادي، تطل على سوق تجارية مغلقة وشارع جانبي معتم صغير. بدا أغلب أولئك الرواد الجالسين حول الموائد الكثيرة المتقاربة "أجانب"، من غير الناطقين بالضاد، من شرقي أوروبا، أو غربي الأطلسي غالبا. "حتى وقت قريب ظللت محروما، من ضرورات الحياة، فكيف لي أن أعرف مكانا، بمثل هذه الفخامة، يا مها؟" كانت هي تبدو منذ أن جلسا إذا أمعنا النظر مضطربة خلف مظهر الثقة المرح. وكان هو الذي اختار أن يلعب دور التابع في أعقاب فشل محاولته تلك داخل المكتب لتقبيلها، قد قرر في نفسه حتى النهاية ألا يسألها عن سرّ ذلك المزاج المضطرب، سريع التبدل، ما بين قطبي الثلج والنار، ناهيك عن سرّ تغيبها المستمر، طيلة أسابيع ممتدة، عن اجتماعات الخليّة. ولم يكن يدري بعد أين مسار وجهتها التالية. إلى أن رفعت إليه وجهها ذاك، قائلة:
"هل جرحتك بصدودي الأخرق هناك، داخل المكتب، يا حامد"؟!
بدا لحامد عثمان لوهلة كما لو أنّ مها الخاتم تقرأ أفكاره، فقال "المهم"، كناية عن تجاوزه بالفعل لما حدث هناك. بعد صمت قصير بدا بدوره مباغتا:
"أنا جدُّ سعيد بكِ الآن، يا مها".
أما هي فاكتفتْ فقط بالابتسامة.
كما قد رغب هو إذ ذاك وبشدة:
لم يتوقف، إرباكها له تاليا، بعدُ:
لو تعلم أنّك أقرب إنسان لي هنا
بدأ في تقدير أبعاد جملتها الأخيرة، داخل نفسه، من دون أن يفقد خيط الاتصال الخارجي بها، بينما تكاد تلتهمه بعينيها، وهي جالسة قبالته هناك، على الجانب الآخر من المنضدة، كأنثى السبع.
كان يود التعرف فقط، على ملامح خطوته هو التالية، بهدوء، أو لا تسرع. حتى هنا، لم تمهله هي طويلا، إذ انطلقتْ بغتة في الضحك، فاختلط الأمر عليه، في لحظة صدق، وشعر بكيانه وهو يرتفع ويطوف حول مركزها، من دون قدرة على الابتعاد عنها، أو الدنو منها قيد أنملة، ولم يعد داخله وخارجه بعدُ إلاها. وكانت مها الخاتم التي أخذت تشعر بالخفة المرحة بعد فترة ممتدة من التعاسة قد جاءت، والليلة الرمضانية لا تزال طفلة تحبو، على منتصف زجاجة البيرة السادسة. ثم.. "بالمناسبة، يا حامد، أنا معجبة جدا بفكرة دفن الموتى تلك"!
هزّ هو رأسه كالمتفهم.
وقد أخذ تاليا كما لو أنّه يهيئ لها الطريق لاستئناف مغامرة أخرى، يقول: "المرء لا يتطلع نحو مستقبل دون تصفية لحساباتِ الماضي العالقة". قالت وهي تقلب وقّادة السجائر الفضيّة اللامعة بين أنامل يدها اليسرى: "كان عليَّ مبكرا حفر قبر لدفن مَن تسبب في تعاستي". وكان حامد عثمان، صاحب الفكرة، قد أخبرها، وهو ينصب شراكه حولها، عن أهمية حفر القبور المجازية، في اعقاب كل تجربة معاكسة، على اعتبار أن الأمر سيكون بمثابة الحماقة، إذا ما وسمت التجربة راهن الحياة ومستقبلها فلنقل بالمرارة. لقد كان واضحا من نطق جملتها، والتي تشي رأسا بندم لتأخرها في حفر قبر لجثّةٍ لا تني تسمم الحياة من حولها بالعفن، أنها كانت تعني بالميت ذاك جمال جعفر "اللعين". إلا أن حامد عثمان وقد فهم مراميها بذلك الوضوح فلم يشأ التوقف بقدر الإمكان عند سيرة "الوغد".
ثم، أو عند مطلع الزجاجة الثامنة تقريبا، قالت:
"جثّة ذلك الحبّ سممت الهواء حقا من حولي".
بدأتْ تبوح له للمرة الأولى عما حدث لها "معه".
بعد نحو الدقيقة، بدا كما لو أن موجات الجذب الصادرة عن كليهما تصطرع فوق أثير المائدة الصيفي. وقد أضفتْ اللغة الإنجليزية التي أخذا يتحدثان بها منذ البداية أجنحة ملائمة للتحليق خاصّة فوق تلك المناطق الكأداء. لكنّ صمتا بدأ يخيم نشازا على غير توقع. "إنها تضع على القبر شاهدا الآن"، قال حامد في نفسه. وأشعل لها سيجارة. لا بد من رفدها إذن بالمعاول وآليات الحفر اللازمة. أخذتْ السيجارة في صمت. ثم أطرقتْ رانيّة إلى أسفل المائدة. "إنها تجفف الآن العرق الذي يعقب الحفر والدفن وتستحم لملاقاة الحياة". وقد بدا وجهها عبر رشفات البيرة وخلل الدخان المتصاعد صوب تبدده غارقا في طمأنينة لم يعهدها حامد عثمان منذ أن رآها وهي تعبر بوابة مكتب الأمم المتحدة في ذلك الصباح البعيد لأول مرة. فجأة، أحسّ بيدها، وهي تتسلل إلى باطن كفه اليمنى. بدت باردة معروقة، مرتجفة، باردة، ملتاعة، كعصفورة تتحسس عشا لاح آمنا. "يا حامد، لا أريد أن أجرح مشاعرك". كما لو أن صوتها يتناهى من قاع سحيق غير مطروق بالمرة للهوان. "أجلس في صحبتك الآن. ينتابني شعور أنني صرت إلى حجر. أحيانا أتصورني مثل ورقة منزوعة من كتاب الحياة. تدوسها أقدام المارة وتدفعها الريح". كاد الدمع أن يطفر من داخل عينيها الغائمتين، لحظة أن قاطعها ممسكا بيدها المرتخية على مفرش المائدة الأحمر، واقترب منها برأسه وعيناه مثبتتان جيدا داخل عينيها قائلا بصوت أدهشته هو نفسه بدءا نبرة صدقه: "يشرفني يا مها أن تكوني أمّا لأولادي". هزَّتْ رأسها بشدة يمنة ثم يسرة. ولا يدري هو إن كان ما ارتسم على مُحيّاها إذ ذاك علامة امتنان أم شارة مرارة. الشيء الوحيد الذي كان واثقا منذ البداية منه أن مها الخاتم بدأت السير على طريق الانحدار ليلة أن أسلمتْ جمال جعفر غشاء بكارتها ومن غير المؤكد بعد متى أو مع مَن ستلامس بأقدامها أخيرا قاع تلك الهاوية الفاغرة للجنون أو الضياع.
حدث بعد ذلك أمر عجيب.
كل شيء أخذ يتم في صمت وتواطؤ وسرعة غريبة.
لم يتبادلان كلمة واحدة داخل عربة الأجرة الصغيرة السوداء.
كانت أولى ساعات بعد منتصف الليل. التواطؤ والصمت سيدا الموقف. لامسها متحسسا. هذه المرة، بدت يدها دافئة لدنة حُلوة الملمس. لا زجر هناك.
كانا يجلسان، والاحساس بالانتماء المتبادل ثالثهما، على المقاعد الخلفية، هكذا متلاصقين، وكل منهما ينظر في اتجاه نافذة مختلفة، وجسدها خاصّة لا يكاد يتوقف عن بث إشاراته الصامتة، في عذوبة وحياةٍ نابضة بالوعود الحلوة اللذيذة حد إسالة اللعاب وجفافه في آن. القاهرة في تلك الساعة "يا شكر الأقرع" تفتح ذراعيها للأحلام والشعراء وأبناء المجون والسبيل والقائمين الليل، إلا قليلا. كانت رقيقة طيبة متسامحة في غفوتها الليلية. غابتها الإسمنتية تتنفس برغم الكثافة والتزاحم كتفا حجريا لكتف. كما أشجار الكافور المتقاربة في حقول شرقي الدلتا. ظلّا على تلك الحال من السكينة، إلى أن هبطا، من العربة، في شارع جانبي تلتقي فروع أشجاره السامقة بسوقها المتقابلة على جانبيه، عند المنتصف هناك في الأعلى، حاجبة رؤية السماء البعيدة الداكنة. وقد تركتْ له يدها اليمنى أخيرا. بدأتْ ذراعه اليسرى تمارس فنون الغوص أعمق فأعمق، داخل دفء صدرها الرحب المكتنز المتاح. زحام المارة ذكرى. صدى. صوت العربة آخذ تاليا في الابتعاد شيئا بعد شيء. لا صوت آخر بقي ليعلو في الجوار. النّاس العابرون الموتى من بعد حينٍ قد يطول أو يقصر الأرجح نياما. أما هذا الذي لا يكاد يُسمع، فمسحوق صوت الحبّ المسترق، آخر الليل.
صعدا إلى شقتها في الطابق الرابع. فعلا ذلك بهدوء تام وحذر بدا "غريزيا خالصا". مع أن الأغنياء في هذه الضاحية من القاهرة لا يهابون القوانين، "يا شكر". إنهم يصنعونها. درجة فدرجة، واصلا معا صعود السلّم. كما لو أنّ الدرجات الحجرية المتعاقبة بمثابة طريق صاعد إلى ما لا بد له أن يتمّ. أو كما لو أن أحدهما يخشى ضياع الآخر من سُكر. همستْ عند عطفة الطابق الثالث، في أذنه والعبق مُسكر على سُكر، قائلة: "هذه البناية معظم سكانها أجانب". وهي تفتح باب الشقة، ويدها تواصل ارتعاشها، رمته بنظرة بدا صبرها نافدا، ثم ابتسمتْ. كما لو أن المواقف كلها جرى التدرب عليها في الخيال طوال حياة كاملة. أغلق هو الباب وراءه. بدا في تصرفاته عاديا غارقا كما أوحى السكر في دور، قد يتلاءم ودور أي زوج "شرعي" آخر، وهو يسير "وضح النهار"، وإن شئتَ فقل العلن، في أعقاب زوجته. لم يكن ثمة من خوف. لا ارتياع هناك. هذا هو وجه القاهرة الرؤوم، "يا شكر"، وجه صلاح عبد الصبور، وسيد درويش، وسعاد حسني، ونجيب محفوظ، وإبراهيم أصلان، وأمل دنقل، وأروى صالح.
لما استدار، كاد رأسه يصطدم برأسها، وهي تسأله من كل ذلك القرب إن كان أغلق الباب جيّدا. قال "بالتأكيد". ثم رآها لدهشته تبتعد متقدمة ببطء، وقد شرعت، مع كل خطوة، في التخفيف، عبر الطرقة الطويلة الممتدة، تنضّ ملابسها، وقد عادت ثوريتها المثلمة تطل برأسها، بما بدا جرأة ولا أروع، بينما تواصل السير صوب الحمام، كما لو أنّ أجنحة خفية ترف، من على كتفيها، فتحلق ولا تكاد تمشي. كان لا يزال يتبعها بخطى بدا بالفعل كما لو أنّها تعرف طريقها جيدا، أو كما لو أنها لم تكن أول مرة يدخل فيها إلى شقتها. التواطؤ لا يزال سيد الموقف. كذلك شريكه الصمت الذي لم تخف كثافته حتى حين يعلو صوتها أو صوته في الهمس درجة. إلى أن اقترب هو، الذي تجاهل أوامرها له بالانتظار في الصّالة، كي يساعدها، على خلع حمالة صدر حمراء. كانت مشبعة بأريج مسكر عبِق لم تفسده ساعات النهار. وكان أخرق. فتجاوزت هي ارتباكه وتولت المهمة. أو كما ينتفض القطّ خارجا برأسه من الماء، اندلق نهداها، وتلك مواقع للجسد لا تراها الشمس عادة. مر وقت شعر خلاله هو كما لو أن الوجود برمته لا وجود له هناك. وقد ظلّ كعهده يرتعش مأخوذا كالمحموم، غير بعيد يرقب عريها كما يرقب كافر ألسنة الجحيم وهو لا محالة هالك، إلى أن انحنتْ هي أخيرا، كي تضبط توازن الماء الباردة والحارة. إذ ذاك، إذ ذاك فقط، أمكنه رؤية شيئها بصفاء ووضوح مذهلين، لأول مرة، وهو يطل عبر زاوية خلفية ولَّدت في مسامه اهتزازا أشبه ما يكون برعشةِ السهل أصابه زلزال، وقد بدا خاليا تماما من شعر. "أهذا إذن هو الشيء، أهذا إذن هو الشيء، أهذا إذن هو الشيء"، أخذ يردد أخيرا في سره.
عيناه جاحظتان.
وأنفاسه مبهورة..
شيئا فشيئا، أخذتْ أدران النهار، آثار العرق، بقايا الشمس المدبوغة على الجلد وغيرها؛ تتحلل وتتساقط وتذوب، ثم تنجرف بعيدا، مع رغوة الصابون، صوب مستقر لها، عميقا أسفل سطح الأرض.
أخيرا، وقد توقف خرير الدش، اقترب منها، بما تبقى له، لا من إرادة، بل من قدرة الجبال الراسيات نفسها، على التحمّل والانتظار. أو كما لو أن القدر الرحيم ظلّ يعده طوال سنوات للقيام بتلك المهمة، شرع في تجفيفها، ببطء بدا مبالغا فيه، بينما كانت هي تضع عينيها هناك، على مكان ما بعيد من الحائط.
في جحيم الصمت المطبق المستعر ذاك، كانا يتبادلان فحسب الإنصات، بما يشبه الأرجح التواطؤ، إلى فحيح أنفاسهما المحمومة المختلطة، تماما كما لو أنّها تيارات متعارضة داخل بركان نشط. إلى أن أمسك هو بيدها، والمنشفة المبتلة على كتفه، كي يساعدها في ضبط توازنها، ولم تقاومه، عهدها طوال تواجدهما، داخل الحمّام. لما جذبت قدمها الأخرى من داخل الحوض، دفعته هي في صدره أخيرا بمرح، ثم ولّتْ هاربة في عريها صوب غرفة النوم، ولم تلتفت، في الأثناء. بدأ يستحم حالا وباب الحمّام مشرع. ثم مضتْ دقائق أخرى أعقبت فرارها واستحمامه، بدا خلالها هو كما لو أنّه قد تجمد، وهو يهيئ نفسه، على بعد خطوة، للقاء الأنثى، لأول مرة في حياته، وكاد أن يبكي. هو نفسه. ملك العادة السرية على وشك التقاعد. وذلك عرش لا مجد له ولا تاج. كان قلبه لا يزال ينتفض بشدة. روحه شارفت الحلقوم مرة وأكثر. والمرآة أعلى حوض الغسيل مغطاة بالبخار. وجهه كالدهمة مموّهة الملامح. "الساعة أزيل عذريتي (يا شكر الأقرع) مثلما يزيل جرّاح شيئا زائدا عن جسد". كانت الإضاءة داخل غرفة النوم خافتة تصدر عن أباجورة لها هيئة الشمعة الصغيرة عند أحد أركان الغرفة. وقد وجدها حامد عثمان، فور أن دفع الباب الموارب، في انتظاره، وهي تستلقي هناك، على ظهرها، مستعدة تماما للإبحار، في صحبته. ساقاها منفرجتان. رأسها على المخدة ساقطة صوب الحائط. بدا شعرها الذي استطال خلال أشهر قليلة ملموما إلى أعلى. كانت تبكي بلا صوت، أو تئن من وطأة ألم أو الأرجح تجأر بلذة، ودموعه هو، الساخنة المتسارعة، لا تكاد تكفّ عن التساقط هناك، أعلى نهديها، قطرة فقطرة. إلى أن عنّ له فجأة أن يصدح بالغناء ففعل.
عبدالحميد البرنس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.