القاهرة يعتبر أن قاموس العامية هو الأقدر على استيعاب معانيه وأخيلته وهمومه الشعرية، لذا فهو يتمسك بلهجته وهويته الشعبية، النبع الذي يغترف منه الصور والمضامين ولا يخونه طعم الكلام إذا ما حاول اللجوء إلى ما هو أبعد من طعم الكلام، إذا ما حاول اللجوء إلى ما هو أبعد من الشخصية والتجربة الذاتية. يرى ناصر دويدار صاحب ديوان «أمي اسمها فردوس» أن بيرم التونسي هو الشاعر المعتمد في الشعر العامي، فرغم أنه تونسي المولد مصري الجنسية إلا أنه أكثر من عبر عن الحارة المصرية وأهلها. ناصر لا يحاكي بيرم في ما يكتب ولكنه يقتدي به كنموذج تتوافر في إبداعه كل شروط ومواصفات الصدق والحميمية والنفاذ مباشرة إلى القلب. لسبب يحيط به من يعرف ناصر دويدار، ثم اختيار اسم الديوان وسمي بهذا الاسم فالشاعر يعرف أن ذكر اسم الأم في أي سياق محظور لدى الغالبية من الناس، لكونه من المقدسات، لهذا أراد أن يحدث الصدمة الأولى للقارئ على الغلاف، قبل الدخول في المتن فيلفت النظر إلى الشعر والشاعر فيثير الاهتمام، ثم لا يجد ذلك كافيا فيلجأ إلى المكاشفة كنمط في الكتابة مجافيا الطريقة التقليدية التي تعتمد على الاحتفاظ بالمعنى داخل بطن الشاعر. نوع من الفاجومية يمارسه دويدار في قصائده، عامدا إلى كسر حاجز الخجل وتجاوز الرهبة التي تحجم الموهبة، فكلما كان المبدع جريئا كان التوهج وكان التأثير ولأنه ينتمي لهذا التيار ويؤمن بالفاجومية كمذهب تعبيري إبداعي انتقى من بين قصائده ما هي أكثر دلالة على طبيعته وتمرده وعنوانه « من زمان شديت لجامي م الجدار – صحيح جرحني حز الحبل ع الرجلين وصحيح سناني أتخلخلت – وصحيح اتسرسب الدم في المشوار – لكن فلت حلمي من ربطة الجدران. من السمات الشخصية للشاعر المتسربل بدم جرحه وقوافي شعره أنه لا يجد لنفسه نظيرا ولا لشعره شبيها بين قصائد شعراء العامية، وفي الوقت نفسه لا يعتبر ذلك غرورا أو تعاليا، فقط يراه طبيعة ولد بها وولدت معها موهبته، فهو ليس لكل الساقطين الذين صورهم في قصيدته كان قد تحدث بصيغة الجمع ليعطي للصورة حجمها الطبيعي حيث يقول: سقطنا في الامتحان مع أننا غشينا في كل المواد برشمنا صور الخرايط وعناوين البلاد ومبادئ الثورات ونتائج الأعداد وضحكة الحكام برشمنا إن وكان برشمنا أفعال الخيانة برشمنا إعراب الشعوب والنصب والمنصوب. يرصد ناصر الحالة كما يراها بقليل من الشجب والإدانة وكثير من الألم ولا ينأي بذاته عنها فهو مدان كغيره ليس بفعل المشاركة، وإنما بفعل الصمت الذي حوله إلى شيطان أخرس القصيدة في سياقها حالة خاصة تخضع لظروف كتابتها وتوقيت اختمارها كإبداع يتمخض عن رؤى اجتماعية وسياسية في أوانه فيصبح صدى لمرحلة ما كانت ولا زالت وفي حالات الاستشراف تصلح أن تكون حدسا لمستقبل يأتي أو لا يأتي . يكمل ناصر دويدار قصيدة الحرية التي اختار منها أبياتا لصفحة الغلاف الأخير فيستطرد، أتسرسب الدم في المشوار لكن فلت حلمي من ربطة الجدران ورمحت ليل ونهار عبيت في صدري الشمس وصهلت ع البحر الغريق ما يهمنيش الشمس تخدعني ما تهمنيش الموجة تبلعني ما تهمنيش السكة من غير الرفاق ما يهمنيش أكسب نهاية الخط أخسر ما أوصلش أوصل أقعد أنام أشبع أجوع. وفي حالة مغايرة يرى الشاعر نفسه بدون خجل من ضعفه فيعطينا ملمحا عن ذلك الجبن المستتر معلنا إياه في قصيدة .. ساكن سكوتي من سنين – مسمار في قلبي تنيته ع الرئتين – رابط حصاني جنبي ع الكورنيش – الضل غطى دماغه ودماغي – فنامت العصافير – والحب روح من حرارة الشمس على بيته – فاضية الكراسي الرخام النيل بيسند جسمه ع العكاز – والصمت بيغمض عيونه . ما بين الحرية والسكوت يتجلي التباين في الحالة الشعرية والتجربة عند الشاعر فنراه مختلفا غير متشابه ولا مكرور فهو أسير لحظته وابن موهبته، لديه جرأة النقد حاد العبارة مواجه لكنه في الوقت ذاته شاعر لا يتخلى عن رقته ربما تجلت إنسانيته في إهدائه الديوان إلى روح الشاعر الجنوبي أمل دنقل وروح أبيه حافظ دويدار وهي مساواة تعلي من شأن المثل الأعلى وتعزز صلة الدم وصلة الإبداع . كمال القاضي القدس العربي