البنيوية لم تفلح في فرض مشروع البيوطيقا أو بعبارة أخرى لم تستطع أن تقدم تقريراً تنظيمياً عن الأدب يكشف القوانين الكلية له. ميدل ايست أونلاين بقلم: د. مصطفى بيومي عبدالسلام يجب التفكير في ما بعد البنيوية يتضمن التمييز بين اللغة والكلام تمييزاً أبعد هو التمييز بين "الدراسة المحايثة (السينكرونية) للغة ما (التي تركز على لغة ما بوصفها نظاماً في زمن معين: حاضر أو ماضي)؛ والدراسة التاريخية (الديكرونية)، التي تفحص التغيرات التاريخية للعناصر الخاصة في اللغة؛ فلكي تفهم لغة ما بوصفها نظاماً فعالاً يمكن أن تفحصه بطريقة محايثة، محاولاً أن توضح القواعد والمواضعات في النظام الذي يجعل الأشكال والمعاني ممكنة في اللغة". إن أية لغة، فيما يطرح "سوسور"، هي نظام أو نسق للعلامات، هذا النسق أو النظام يجب أن يدرس تزامنياً (أي بطريقة محايثة) عند نقطة زمنية معينة وليس تعاقبياً (أي بطريقة تاريخية تطورية). والعلامة اللغوية تتكون، أو يجب النظر إليها على أنها مكونة، من "دال" (صورة صوتية أو معادلها الكتابي أو شكل ما)، و"مدلول" (مفهوم أو معنى أو صورة ذهنية)؛ ومن ثم فالعلامة اللغوية كيان نفسي ذو وجهين (الدال والمدلول) متحدين بطريقة وثيقة، ويستدعي وجود أحدهما وجود الآخر بالضرورة. والعلاقة بينهما هي علاقة اعتباطية مؤسسة على العرف والمواضعة وليست على التشابه الطبيعي. وإذا كانت أية لغة، فيما يتصور "سوسور"، هي نظام أو نسق من الاختلافات فإن ما يجعل كل عنصر في هذه اللغة ما يكونه أو ما يمنحه كيانه هو الاختلافات والتباينات بينه وبين عناصر أخرى داخل نظام تلك اللغة. إن أية علامة لغوية تكمن خصوصيتها الدقيقة في أن تكون ما لا تكونه علامات أخرى داخل النظام، أو كما يقول "سوسور": "في اللغة لا يوجد سوى الاختلافات فقط" هذه هي المبادئ العامة لنظرية "سوسور" اللغوية التي تم تطبيقها في مجالات معرفية مختلفة، فمن خلال تطبيق هذه النظرية "يمكن أن ترى أسطورة ما، أو مباراة مصارعة، أو نسق قرابة قَبَلِية، أو قائمة طعام في مطعم، أو لوحة زيتية، بوصفها نسقاً من العلامات، وسوف يحاول التحليل البنيوي أن يعزل مجموع القوانين الكامنة التي يتم بمقتضاها ائتلاف هذه العلامات في معانٍ. وسوف يتجاهل إلى حد كبير ما "تقوله" العلامات فعلياً، ويركز بدلاً من ذلك على علاقاتها الداخلية مع بعضها البعض". إن النشاطات الإنسانية والمعرفية يتم تأملها مثلما يتم تأمل اللغة بوصفها نسقاً للعلامة، فإذا كانت مهمة اللغوي أن "يصف نظام القواعد، والتقاليد أو المواضعات، والممارسات التي تمكن الجنس البشري أن ينتج ويفهم الجمل، فإن مهمة البنيوي أو السميوطيقي هي أن يعيد تشييد أنظمة العلامة الأخرى التي تشتغل الثقافة بمقتضاها. إن مجالاً متسعاً من النشاطات الإنسانية ومنتجاتها يتم النظر إليها بطرق متشابهة، بوصفها منتجات لأنظمة الدلالة ومن ثم بوصفها نصوصاً ... إن أي شيء في المنظور البنيوي – السميوطيقي يمكن أن يكون نصاً". أشرت سلفاً إلى أن البنيوية هي محاولة لتطبيق نظرية "سوسور" اللغوية على مجالات معرفية مختلفة. ولقد تطورت البنيوية أولاً في مجال الأنثروبولوجيا، ثم في الدراسات الثقافية والأدبية، والتحليل النفسي، والتاريخ الفكري، وأخيراً النظرية الماركسية. إن البنيوية تخص مجموعة من المفكرين ظهروا في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. وعلى الرغم من اختلاف المجال المعرفي لكل منهم، فإنهم جميعاً عملوا تحت مسمى "البنيوية"، وما كان يشغلهم أيضاً هو اكتشاف الأنساق الكامنة خلف أية ممارسة فعلية. ولكي يتم اكتشاف الأنساق أو اكتشاف الشفرات والقواعد والأنظمة التي تكمن خلف الممارسة الثقافية والاجتماعية بطريقة علمية، فإنه لابد من عزلها عن الممارسات الفعلية، لأن هذه الممارسات تلوث علمية الاكتشاف. ولكن عندما يقوم البنيويون بعزل النسق فإنهم "يلغون أيضاً التاريخ، لأن البنيات المكتشفة إما أن تكون كلية وشمولية (البنيات الكلية للعقل الإنساني) ومن ثم لا زمنية، أو أن تكون قطعاً اعتباطية منفصلة من عملية متغيرة ومتطورة". وإذا أضفنا إلى ذلك إشارة "كولر" السالفة بأن أي شيء يمكن أن يكون نصاً في التقاليد البنيوية، فإن مقاربة البنيويين لهذا النص "تكون ساكنة ولا تاريخية بالضرورة: أي أنهم لا يهتمون بلحظة إنتاج النص (سياقه التاريخي، واتصاله الشكلي بالكتابة السابقة عليه)، ولا بلحظة تلقيه أو "إعادة إنتاجه" (أي التأويلات المفترض أنها تابعة لإنتاجه". في مجال النقد الأدبي والدراسات الأدبية قدمت البنيوية نفسها بوصفها علماً، أو أن التحليل البنيوي للأدب، كما يطرح "تودوروف"، "لا شيء أكثر من محاولة تحويل الدراسات الأدبية إلى معرفة علمية منظمة ... أي مجموعة مفاهيم ومناهج منسجمة أو مترابطة تهدف إلى معرفة القوانين الكامنة". ولكي يقدم الناقد دراسة بنيوية للأدب أو علمية تطمح إلى اكتشاف القوانين الكامنة، فإنه ينبغي عليه أن يفعل مثلما يفعل اللغوي، من حيث إنه "لم يعد مسئولاً عن إعادة تشييد رسالة العمل، ولكن عن نظامه فقط، مثل اللغوي بالضبط ليس مسئولاً عن تفسير معنى الجملة ولكنه مسئول عن تأسيس البنية الشكلية التي تسمح لهذا المعنى أن يكون منقولاً". لقد روجت البنيوية لفكرة البيوطيقا أو الشعرية بوصفها محاولة لتفسير النتائج الأدبية عن طريق وصف التقاليد والمواضعات وقراءة العمليات التي تجعل تلك النتائج ممكنة، فيمكن أن نصف التقاليد الخاصة بالرواية التي تمكننا من معرفة الكيفية التي حصلت من خلالها تلك الرواية على نتائجها. إن البيوطيقا لا تبحث عن إنتاج تأويلات جديدة للأعمال الأدبية، "فمهمتها يمكن أن تكون تفسيراً للنتائج أياً ما تكون أو مهما كانت التي نستطيع أن نقررها؛ أي أننا يمكن أن نقرر، على سبيل المثال، أن إحدى النهايات أكثر نجاحاً من نهاية أخرى، وأن هذا التآلف للصور في قصيدة ما يمكن أن يكون مفهوماً، بينما لا يكون كذلك في قصيدة أخرى. علاوة على ذلك فإن الدور المهم للشعرية هو تقدير كيف ينشغل القراء بتأويل الأعمال الأدبية، أي التقاليد التي تجعلهم قادرين على فهم الأعمال". لكن البنيوية لم تفلح في فرض مشروع البيوطيقا أو بعبارة أخرى لم تستطع أن تقدم تقريراً تنظيمياً عن الأدب يكشف القوانين الكلية له. وربما أظهرت الممارسة الخلل الذي ينطوي على وهم الكشف العلمي للبنية أو القانون، "إذ لا يمكن لأحد أن يمضي إلى النهاية في فحص البنية دون أن يجد نفسه خارجها بأكثر من معنى، وذلك من حيث هي نسق يفضي حضوره إلى غيابه، بالقدر الذي تتكشف به البنية عن نص متناص ينطوي في داخله على ما يشير إلى خارجه. هذا الخارج هو التاريخ التي حاولت البنيوية أن تفر منه، والذي يعني على مستوى شعرية البنية دوافع التشكل وتقاليد النوع وتناص الوقائع والأحداث والمعطيات". والمتأمل لأعمال البنيويين ربما يكتشف أنها لا تلائم أفكار البنيوية بوصفها محاولة لفهم البنيات فهماً كاملاً. لقد أدركت هذه الأعمال استحالة وصف نسق دال أو متماسك، لسبب بسيط وهو أن هذا النسق في حالة من التغير الدائم والمستمر، "لقد كان "بارت" و"لاكان" و"فوكو"، على سبيل المثال، مميزين بوصفهم ما بعد بنيويين، تجاوزوا ما أدركته البنيوية بطريقة ضيقة، لكن العديد من المواقف المرتبطة بما بعد البنيوية كانت واضحة حتى في الأعمال المبكرة لهؤلاء المفكرين عندما ما كان يتم النظر إليهم بوصفهم بنيويين. إنهم وصفوا الطرق التي تدخل من خلالها النظريات معتلقة بالظواهر التي تحاول أن تصفها، كيف تخلق النصوص المعنى عن طريق نقض التقاليد التي يعينها التحليل البنيوي". في أواخر الستينيات من القرن العشرين ربما نلاحظ اختفاء اللغة الحماسية والدعائية للبنيوية من حيث قدرتها على اكتشاف الأنساق بعيداً عن ممارساتها الفعلية. لقد تعلمت البنيوية فضيلة التواضع العملي لأن الممارسة كشفت عن زيف الادعاء ووهم العلمية المفرط، وخلل النظرية التي جهرت طويلاً بتدمير مركزية الذات وإحلال مركزية البنية؛ ولم يصبح في مقدورها أن تكشف عن قوانين وأبنية كلية مجردة للعالم أو للعقل الإنساني. فليس غريباً أن يفتتح "بارت" كتابه: " S/Z" (1970) بالإشارة إلى إخفاق مساعي التحليل البنيوي للسرد الذي حاول أن "يرى قصص العالم جميعاً في نطاق بنية واحدة"، فالنص من خلال هذا المنظور "يفقد اختلافه"، والاختلاف لا يعني نوعاً من التميز والتفرد، وإنما يعني، كما يرى "بارت"،"اختلاف يعود إليه كل نص". ويميز "بارت" من خلال قراءته ل "سارزين" ل "بلزاك" بين النصوص على أساس من خصائصها القرائية والكتابية أو بين نص القراءة ونص الكتابة، منتهياً إلى أن "نصوص القراءة (وهي نصوص تقليدية عادة) نصوص ساكنة، تقرأ نفسها على نحو تدعم معه نظرة جامدة إلى الواقع وهيكلاً ثابتاً من القيم التي تخطاها الزمن، ومع ذلك تظل تؤدي دوراً بوصفها نموذجاً متخلفاً تجاوزه عالمنا. أما نصوص الكتابة فهي نصوص تفرض علينا أن ننظر إلى طبيعة اللغة نفسها، وليس النظر – من خلال اللغة – إلى "عالم واقعي" مقدور، فتورطنا هذه النصوص- بذلك – في نشاط خطر بهيج نعيد فيه خلق العالم الآن". لم يقف "بارت" طويلاً لكي يشرح قصور التحليل البنيوي للسرد، وإنما تجاوز ذلك سريعاً إلى التحليل النصي الذي ربما لا يمكن النظر إليه بوصفه انتقاداً حاداً للبنيوية، ولكن "بوصفه شيئاً جديداً في نطاق النزعة البنيوية. فالتحليل النصي الذي صوره "بارت" استبقى التزاماً باكتشاف بنية النص ... ولكن أيضاً لم يضع هذه البنية في سياق النظام السردي المغلق وإنما وضعها في السياق التناصي الذي لا ينطوي على نظام مغلق محدد. فالطبيعة التناصية للنص تعني أن دواله تعرض دائماً "المكتوب/المقروء من قبل".. إن النص لديه بنية يمكن تحديد عناصرها، وأيضاً منسوج من خيوط النص الاجتماعي ... فالنص يجمع البنية والمعنى اللانهائي". هل يعني هذا أن ننظر إلى ما بعد البنيوية بوصفها "استمراراً ورفضاً في الوقت نفسه للبنيوية... لأنها تقبل بعض الأطروحات الرئيسية للبنيوية". إن "بيرتنز" يعتقد أن ما بعد البنيوية "لا يمكن التفكير فيها من غير البنيوية ... إنها تداوم على المنظور اللاإنساني للبنيوية بطريقة قوية، وتتبع البنيوية إلى حد بعيد في اعتقادها بأن اللغة هي المفتاح لفهمنا لأنفسنا والعالم ... ولكن رؤيتها للغة مختلفة تماماً عن رؤية البنيوية ". إن فكرة قبول ما بعد البنيوية لبعض الأطروحات البنيوية ليست مرضية تماماً، فثمة اختلاف في رؤية هذه الأطروحات. هذا لا يحيل، فيما أتصور، على فكرة الاستمرار والمتابعة، وإنما يحيل على فكرة التبدل والتغير، وربما أتصور، أيضاً أن فكرة المتابعة والاستمرار نشأت من أن بعضاً من ما بعد البنيويين هم بنيويون في الأصل اكتشفوا عقم المطامح والمساعي البنيوية. إن ما بعد البنيوية، على وجه العموم، "تحاول أن تفضح المزاعم العلمية للبنيوية. فإذا كانت البنيوية بطولية Heroic في رغبتها للسيطرة على عالم العلامات المصنوعة، فإن ما بعد البنيوية هزلية ولا بطولية في رفضها أن تأخذ هذه المزاعم بطريقة جدية. ومع ذلك فإن استهزاء ما بعد البنيويين بالبنيوية هو استهزاء ذاتي تقريباً: ما بعد البنيويين هم بنيويون يرون الخطأ في طرقهم بغتة". إن مصطلح "ما بعد البنيوية" يتم استخدامه لمجال متسع من الخطابات النظرية: النسويات المعاصرة، والتحليل النفسي، والتاريخيات، والماركسيات، التي برزت في السبعينيات من القرن العشرين. هذه الخطابات قدمت انتقاداً ونقضاً لأفكار المعرفة الموضوعية التي دشنتها البنيوية. ويستخدم مصطلح "ما بعد البنيوية"، أحياناً، بوصفه مرادفاً لمصطلح "ما بعد الحداثة"، يكتب "موهانتي": "إنني أستخدم "ما بعد البنيوي" للإشارة إلى الخيط أو الفرع السائد لنظرية ما بعد الحداثة، التي لديه تركيز على اللغة والأنظمة الدالة، ولكن أطروحاته ابيستيمولوجية (معرفية) أساساً". ويشير "ليتش" إلى أن "ما بعد البنيوية" في نهاية القرن العشرين "أصبحت الشاطئ الرئيس لما بعد الحداثة، وكانت عادة موسومة بنظرية ما بعد الحداثة. وعلى الرغم من ذلك، فإنه يتم النظر إلى ما بعد البنيوية، عادة، على أنها تخص "التفكيك" وتأثير "جاك دريدا"، الذي شاعت شهرته في العالم أجمع بانتقاده للتصور البنيوي للبنية، ونقضه وتفكيكه للتعارضات الهيراركية (التراتبية) التي شيدت الفكر الغربي، أو على حد عبارة "جيمس وليامز": "يجب التفكير في ما بعد البنيوية بوصفها تفكيكاً وليس العكس". أستاذ النقد الأدبي المشارك كلية دار العلوم – جامعة المنيا