لنعد أولا الى الاسباب المباشرة، وليس المراكمة، التي ادت الى تلك الاحداث، فبعد انتصار الثورتين الشعبيتين في تونس ومصر بدأ الناس يتحدثون عن امكان حدوث ذلك في سوريا. فالشعب السوري ليس مستثنى من قوانين المجتمعات البشرية، نظرا الى تماثل اوجه القمع والفساد وكبت الحريات وعدم تداول السلطة. بعض تلامذة المدارس الصغار كتبوا على جدران مدارسهم عبارات تندد بالنظام من دون ان يفهموا معناها. وبعد تحريات قامت بها اجهزة الامن توافرت لديها اسماء. لم يكن يهمهما دقة الاسماء بقدر ما يهمها اعطاء درس للمواطنين الكبار عبر ابنائهم الصغار. دهموا بيوتهم واعتقلوا العشرات. ظن الاهل انهم سيعيدونهم بعد ساعات. مضت الساعات والايام والاسابيع من دون ان يسمعوا عنهم اي خبر. قيل انهم ارسلوهم الى السويداء ومن ثم الى دمشق. وهذا ما يحدث مع من يهدد امن الدولة. انتاب القلق الاهالي، خصوصاً بعدما اصابتهم الخشية من ان يصاب اطفالهم باختلالات نفسية وجسدية بسبب التعذيب والاقامة في الاقبية. وشعر الاهالي ومعهم جميع سكان درعا بأن كرامتهم قد اهينت، واستغربوا كيف ان نظاما قويا يقف سدا منيعا في وجه الامبريالية والصهيونية يخاف من اطفال صغار؟! في 3/18، وبعد صلاة الجمعة في الجامع العمري الكبير الواقع في درعا البلد مركز العشائر الكبرى، خرج آلاف المصلين من الجامع ومن جوامع اخرى في مسيرة سلمية مطالبين بالافراج عن اطفالهم. تصدت لهم قوات الامن واطلقت عليهم الرصاص فقتلت اربعة وجرحت العشرات. نقل الجرحى الى الجامع خوفا من ان تعتقلهم اجهزة الامن وتهمل معالجتهم. تطوع اطباء درعا وجاؤوا الى الجامع، كما فتحت الصيدليات ابوابها لاخذ ما يلزم من الدواء. واصبحت درعا البلد محررة من اجهزة الامن الذين تمركزوا عند الجسر الواصل ما بين درعا البلد ودرعا المحطة. في اليوم التالي تجمع اكثر من ثلاثين الف مواطن في الجامع وساحته لتشييع الشهداء. امتد طابور المشيعين من الجامع الى المقبرة على مسافة تزيد على ثلاثة كيلومترات. شعاران اساسيان هتف بهما المشيعون: "الله، سوريا، حرية... اللي يقتل شعبه خاين". بعد الانتهاء من الصلاة ومراسم الدفن وقف احد رجال الدين على كتف احد المواطنين معلنا بصوت مرتفع انه مكلف من اعلى المرجعيات بتسجيل مطالب اهالي درعا، وستلبي حال وصولها. قال بعضهم انهم كذابون فلا تصدقوهم، وقال آخرون لقد جربناهم اربعين عاما فلنجربهم هذه المرة. كان الطلب الاول اطلاق المعتقلين من الاطفال، ومعاقبة من اطلق النار على المتظاهرين، ورفع حال الطوارئ، وبعض المطالب المحلية. في المساء توافد الآلاف للتعزية بالشهداء. طافت مدينة درعا مئات الدراجات النارية والسيارات تحمل شبابا لا يتجاوزون العشرين من اعمارهم يهتفون: "حرية حرية اللي يقتل شعبه خاين". نحو التاسعة ليلا كانت الساحة الملاصقة للمسجد تغص بالشباب الذين يعدون بالآلاف. كان احدهم يتحدث عبر مكبر الصوت قائلا: يا شباب، لا تتحركوا من مكانكم في اتجاه المحطة. فقوات حفظ النظام المعززة بالمئات من دمشق ترابط عند الجسر. ونحن لا نريد الاصطدام بهم، بل نريد تحقيق مطالبنا التي ارسلناها اليهم. وقفت مع مجموعة من الشباب الذين كانوا يشكلون حلقات من خمسة الى عشرة اشخاص. سألت احدهم: لماذا انتم متواضعون في طلباتكم؟ الله سوريا حرية وبس. قال لي من دون ان يشعرني بأنه يعطيني درسا: هل تدرك ماذا تعنيه هذه الكلمة العذابة "الحرية"؟ هل تتذكر قصة الذي طلب من الملك ان يملأ له مربعات رقعة الشطرنج قمحا: واحد، اثنان، اربع، ثمانية، الخ، وتبين له ان جميع مخازن القمح في مملكته لا تكفي؟ ان طلب الحرية يعني الغاء حالة الطوارئ، اصدار قانون للاحزاب، اصدار قانون يعطي حرية للصحافة، انتخابات حرة لمجلس نواب تداول السلطة... الخ، ثم اردف قائلا كما لو انه تذكر فكرة: هل تعلم ان عددنا على الفيسبوك في سوريا يناهز المئة الف؟ نتبادل الآراء والافكار وننسق فيما بيننا، كما نتبادل الخبرات ونتشاور مع زملائنا في مصر ونستفيد من تجاربهم. اننا لا نحتاج الى اخذ رخصة من النظام ولا الى طلبات انتساب ولا الى برامج ونظام داخلي ولا الى مكتب تدهمه قوات الامن! اننا في عصر العولمة الذي لا تستطيع ان تستوعبه الانظمة الديكتاتورية. وقفت مشدوها من شدة الاعجاب امام هذا الشاب الذي لما يبلغ العشرين. كنت اظن انني استاذ في السياسة وانا المنغمس بها منذ اكثر من نصف قرن. وجدت نفسي كمن يذهب الى الحج على ظهر جمل وهم يذهبون على متن طائرة. وبينما كنت مستغرقا في تأملاتي، اردف قائلا: هل تعلم يا استاذ؟ هل يمكن ان تعرفنا الى اسمك؟ انا عبد الكريم ابا زيد! (...) هل تعلم يا استاذ عبد الكريم ماذا يقول هؤلاء الحكام العرب عن حركاتنا؟ انهم يقولون اننا ننفذ مشروع الشرق الاوسط الجديد عندما نثور عليهم ونطالبهم بالحرية. يجب ان يعرف هؤلاء الحكام العرب المشرفون على الزوال انهم هم، بديكتاتوريتهم وقمعهم لشعوبهم وتمسكهم الذي لا مثيل له بالسلطة، هم الذين سينفذون مشروع الشرق الاوسط. هل كان سينقسم السودان الى دولتين لو ان الديكتاتور الدموي البشير اعطى شعبه الحرية؟ لقد كان الرئيس مبارك على استعداد لان يقبل بتقسيم مصر الى دولتين: مسلمة وقبطية بشرط ان يبقى. وكان من الممكن ان تساعده اسرائيل على ذلك. ومن الممكن ان يقبل علي عبد الله صالح ان يبقى رئيسا لليمن الشمالي مع انفصال اليمن الجنوبي. وينطبق هذا الامر على العراق وسوريا والجزائر وغيرها. لقد قطعنا الطريق على مشروع الشرق الاوسط الجديد بثوراتنا هذه. ونحن على ثقة بنجاحها. وها هي نجحت في تونس ومصر وقريبا في اليمن وليبيا وسوريا. فنحن باشاعتنا الديموقراطية في الحياة السياسية، واعطاء جميع فئات الشعب بقومياته وطوائفه حقوقها، فانها لا تعود تطالب بالانفصال. هل شاهدت كيف خرج شيوخ الأزهر بمسيرة رافعين شعار: نريد اعادة بناء (كنيستنا) التي احرقتها اجهزة امن مبارك؟ انهم لم يقولوا "كنيستهم"، بل قالوا "كنيستنا"! وهل رأيت كيف كان المسيحيون واقفين حراسا على المسلمين وهم يؤدون صلاة الجمعة في ساحة التحرير في القاهرة؟ نظرت الى الساعة فرأيتها قد تجاوزت منتصف الليل. كان الآلاف لا يزالون يتحاورون. لم اشعر بالتعب، بل شعرت بأنني ولدت من جديد. كنت مدهوشا من هذا (الولد العفريت) العملاق في السياسة. لم اكن اظن ان هؤلاء الشباب الا منغمسين في اللهو والتفتيش عن عمل. انهم يعلموننا خوض السياسة ليس فقط بعقولهم، بل بأجسادهم التي تتعرض للرصاص. سألته: ما اسمك ايها الشاب المدهش: قال: غسان ابا زيد! رغم انني من سكان درعا ولكنني اعيش في دمشق منذ زمن طويل فلا يمكنني معرفته، خاصة ان عائلة ابا زيد يزيد عددها على الخمسة عشر الفا. عبد الكريم أبا زيد