على نحوٍ لافت تم الإعلان عن زيارة الدكتور الترابي للدوحة، دون إعطاء تفاصيل كافية عن برنامج الشيخ هناك، ورغم توالي زيارات زعيم المؤتمر الشعبي إلى الدولة النفطية حتى دخلت حيز الاعتياد، إلا أن انقاطعه عنها طويلاً هذه المرة هو الذي يبعث الاستفهامات، أكثر من عام لم يحط الترابي رحاله في مطار حمد الدولي، وبالمقابل توقفت برقيات العائلة الأميرية، وتنحت جانباً، قناة الجزيرة التي كان الترابي أحد أبرز ضيوفها متى ما استجدت الأحداث، سوف تردد المنشية، كدأبها أن الشيخ شغلته تصاريف الحوار الوطني، فانقطع لها، مثل ما كان ينقطع في السجن للكتابة، دون أن تتسرب إجابة عن طبيعة العلاقة بين الترابي والدوحة، وكيف سيمضي أسبوعه ذياك؟ في صالة المغادرة ظهر أمس الإثنين، كان يجلس إبراهيم السنوسي، وهو يزجي وصيته الأخيرة قبل صعود شيخه إلى متن الطائرة، على الخلفية الزرقاء كان علم السودان يرفرف فوق الترابي، يتوسطه صقر الجمهورية (النصر لنا)، بينما كانت قيادات الحزب على مقربة تثرثر بحذر، الترابي اصطحب معه مدير مكتبه تاج الدين كالعادة، وبعض أعضاء حزبه، ورافقه ابنه عصام، مما يعني أن الزيارة لا تخلو من طابع استجمام ومراجعة صحية في مدينة حمد الطبية، بعيد رهق الحوار، ومغالبة روح الصراع داخل الحزب والمنظومة الخالفة، فالشيخ لم يعد مرتهناً للشعبي، ولكنه يعمل مع الجميع، ويحرك كل خيوط اللعب بمهارة، ويفاجئ حتى أعضاء حزبه ببعض القرارات، ولاسيما أنه أكثر هدوءً الآن واطمئناناً لمخرجات الحوار، بعيد أن وضع خلاصة رؤاه ونفخ فيه من روحه، وربما يريد أن يمارس ضغوطاً محددة من الدوحة لضمان تنفيذ مخرجات الحوار الوطني بعد أن اقترب أوانها. برنامج الزيارة التي تستمر أسبوع بحسب ما نشرته صحيفة (المجهر السياسي) أمس، وأشارت إلى أن الترابي سوف يلتقي رموز عالمية، ومن المتوقع أن يقدم مساهماته في القضايا العربية والإقليمية، وإفرازات ثورات الربيع، كل هذا العصف مكانه قناة الجزيرة بالطبع، ومراكز البحوث التي يقف عليها عزمي بشارة، ومن قبلهم الشيخ القرضاوي الذي تربطه بالترابي علاقة ود قديمة وانغماس في هموم الإسلام السياسي، الأمر الملاحظ أن الترابي يغادر للدوحة هذه المرة، وهو أقرب للحكومة، وفي السابق كان يمضي ما بعد شهور الاعتقال إلى هناك، وهو محاصر بآلام ومرارات شديدة، لكنه اليوم، في جلبابه الأبيض رائحة السلطة، وتحديات المرحلة. ما حير الناس صراحة هو العلاقة المثيرة للجدل التي تربط الأسرة القطرية الحاكمة بالدكتور الترابي منذ سنوات بعيدة، فكلاهما يصنع أجنحة للحلم، ويسوقان في بازارات العالم فاكهة جديدة ومشروعاً إسلامياً، ثمة حلقة مفقودة إذن في ما يرشح من معلومات، والكثير من الاستفهامات يشوبها العطش لاستكناه سر العلاقة. فالرجل الذي مكن أول حركة إسلامية في العالم السني من الحكم كثير التردد على دولة قطر، يدخلها فتشرع له الأبواب الأميرية، ولا تخفى تجربته في كتابة دستور عدد من الدول الخليجية، ومن ضمنها قطر، كما أنه سيلتقي في هذه الزيارة التي كان من المرجح أن تكون إلى فرنسا وسوربونها، بكبار شيوخ الدولة ومفكريها، وبالضرورة الأمير تميم الذي لم تتوثق علاقته بالشيخ بعد، مثل والده حمد، وسوف تكون الدوحة منبراً يخاطب منه الترابي المملكة العربية السعودية والإمارات كما يعتقد الكثيرون، ويبعث لها برسائل طمأنينة، وهو الذي بارك مشاركة السودان في عاصفة الحزم، والتحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب، وإضعاف شكل العلاقة مع إيران، زعيم الإسلاميين لم تصدر منه إشارة تعارض على توجه الحكومة الأخير، تلميحاً أو تصريحاً، مما يعني أنه داعم لهذه الاستراتيجية، حتى من داخل لجان الحوار الوطني. تعددت مشاركة الترابي لقطر احتفالتها، وقد درج أن يكون ضيفاً ثابتاً في العيد الوطني لدولة قطر داخل سفارتها بالمنشية، في الخاطر أيضاً مشاركته في ندوة (الأخلاق والسياسة) قبل أعوام، مما أعاد إنتاج الأسئلة من جديد، هذا هو رأس جبل الجليد، فعلى ماذا تنطوي الحكاية؟ قبل الزيارة تلك بأسابيع قليلة غادر الترابي للدوحة أيضاً ليشارك مع طيف متنوع في ندوة حول الإسلاميين ونظام الحكم، شهدها (31) باحثا متخصصا و(26) معنيا بقضايا الندوة، وأكثر من عشرين شخصية من القيادات الإسلامية البارزة. وقد أشار الترابي، وهو يجنح بكل الصراحة، إلى أنه جاء ليتداول سوابق تجربته الإسلامية مع آخرين يشاركونه عبرة المسير. واستطرد قائلا ساعتها "كنت منذ أول حياتي خائضا في سياق حركة الإسلام، وما كنت حتى منحصرا في منحى من وطن، ولكن كنت بقدر الله دائما أضرب في وطني وفي الأرض في كل نواحيها". المحاضرة التي احتفى بها مدير المركز الدكتور عزمي بشارة حملت أكثر من دلالة. الشاهد من وراء هذه الإطلالات المتعددة أن ثمة مودة ونصائح متبادلة بين الترابي وشيوخ الدولة الناهضة، أميرهم يدعم مشروع الترابي في العلن، وقد استبان ذلك من خلال الدور الذي تقوم به قطر في محاولة تمكين الحركات الإسلامية من الحكم، وعبر قناة (الجزيرة) الذراع الإعلامية الكبرى، كما أن وجود الدكتور القرضاوي - رغم خفوت صوته مؤخراً - هو العنوان الأبرز من خلال نشاطه الدعوي والإعلامي، كونه يجسد المرحلة الفكرية والتنظيمية التي استقر عليها عمل الإسلاميين في شتى البقاع. بالطبع لا تخفى على الكثيرين العلاقة الحميمة التي تجمع الشيخين الترابي والقرضاوي لدرجة أن فتاواهما المثيرة للجدل بخصوص بعض القضايا المعاصرة تتماثل إلى حد بعيد. ومنذ أيام المفاصلة الشهيرة بين الترابي والبشير بدا الانزعاج على القرضاوي، الذي حاول جاهداً تذويب الخلاف. الدكتور عبد الرحيم عمر في كتابة الشهير (الترابي والإنقاذ صراع الهوى والهوية) وثَّق لتلك المحاولات بالقول إن خلاف الإسلاميين شغل كل قادة الحركات الإسلامية العالمية، فمنهم من أبرق مستفسراً، ومنهم من اتصل مشفقاً، ومنهم من يمم متوجهاً شطر السودان، لعل الله يجعل الإصلاح على يديه. وفي هذا الإطار جاء وفدان من قيادات الحركة الإسلامية، الوفد الذي يهمنا في هذا التقصي بقيادة الشيخ القرضاوي، وقد تمكن من وضع يده على أصل المشكلة، ووضع لها الحلول الناجعة، وقدم جملة توصيات لإصلاح ذات البين، لكنها لم تجد أذناً صاغية، وقد حرص القرضاوي قبل مغادرته البلاد على الانفراد بالشيخ الترابي والرئيس البشير كل لوحده. قبل أن تهدأ النيران تجلى الدور القطري في محاولة إطفائها، وقد ظهر ذلك في تصريح سابق للشيخ حمد بن جبر آل ثاني وزير الخارجية القطري بأن زيارته للخرطوم ساعتئذٍ، جاءت في إطار المساعي التي تبذلها دولته لتقريب وجهات النظر بين البشير والترابي إثر المستجدات التي شهدتها الساحة السودانية. الوزير أوضح أن دولته قدمت ورقة تتضمن أفكارا لإصلاح ذات البين، وبعد كل هذه العلائق الممتدة، ترى ما الذي تحمله هذه الزيارة في شكلها ومضمونها؟ اليوم التالي