في صالة المغادرة تلك، بين ظلال ما بدا أضواء خافتة، تعثّرتُ على حين غرة في الرفيق منتصر جيفارا. كان منتصر جيفارا هذا على وشك الإقلاع بدوره، لكن على متن طائرة الخطوط الجويّة الفرنسية ايرباص المتجهة عبر مطار شارل ديجول (Aéroport Paris-Charles-de-Gaulle) إلى أميركا. لم يبدُ علينا أنا ومنتصر معاً أي قدر هناك من خجل كرفيقي خليّة واحدة أخفى كلاهما عن الآخر موعد مغادرته ذاك، بتصميم عنيد، حتى النهاية. ضاحكاً، وجدتني أقول: "ستتوقف طائرتنا بالمناسبة في مطار أمستردام". ابتسم. وقال: "أما نحن، فسوف تتوقف طائرتنا… في باريس". بعد مرور نحو العامين، علمت أن منتصر جيفارا هذا قد صار متشرّداً في أميركا لبعض الوقت، يأكل من المزابل، أو على حساب الصدقات، وأن حالته النفسيّة تدهورت. جمع بعض المنفيين هناك له مالاً، وأعادوه بموافقة منه إلى أرض الوطن. "هي عودة، لو نظرنا إلى الجانب المشرق منها، خير وأفضل من أن يتعاون النّاس على أن يعيدونك إلى الوطن نفسه جسداً مسجى داخل صندوق". كذلك وجدتني وقتها أفكّر في "مآل جيفارا هذا". سرعان ما نسيت كل شيء هناك عنه. طالعتُ حسابه أخيراً في الفيسبوك وهو يطل على العالم من خلال إحدى صوره القديمة تلك في القاهرة. كان نشاطه لا يتعدى تقديم العزاء في ميت، أو التهنئة في فرح، وأكثر الولع بأمجاد أحد النوادي الرياضية. حين يكتب أحدهم بوستاً ينتقد أي شيء في أميركا، يسارع هو بالمشاركة بعلامة "لايك". لا بدّ أن أشياء سيئة حدثت لجيفارا هذا في "بلاد العمّ سام". هل أقوم برؤية القاهرة "في هذه اللحظة" للمرة الأخيرة أم أنني سأحمل القاهرة هذه في دواخلي حتى آخر نفسٍ لي في الحياة؟ بدا العدد القليل من أولئك المنفيين متعباً جراء إجراءت السفر وربما الإثارة والرهبة مما هو قادم وسلطان النوم لا يقاوم. ما كندا هذه في الأخير سوى عالم آخر أكثر بعداً وأشدّ غموضاً أسعى إليه الآن في حال من انعدام المشاعر. المنفى سرطان الحواس. يبدأ بحاسة النظر. ينتهي بحاسة اللمس. يظل يأكل أنوارَ الروحِ شمعة شمعة. لا يُبقي هناك سوى ليل المرارات الحالك. حتى العودة إلى الوطن قد لا تُشفي منه. لكن المعجزات قد تحدث ويعود لعالمي ثقله المفقود ذاك. ربما يحدث ذلك لحظةَ أن أعثر على امرأة ما من خارج قاموس هذا الزمان. امرأة تضمني بسهولها ووديانها وجبالها وأنهارها وحقولها وسمائها. امرأة تغسلني ليلاً مما علق بي من غبار حروب صغيرة متناثرة. امرأة تلدني في الصباح إنساناً آخر في طزاجة الأمل ودفق الضياء. ومها الخاتم ليست سوى سيرة الحلم الثوري المهشّم "عن عمد في غير أوانه". ورائي هناك، إلى اليمين، على بعد نحو ثلاثة مقاعد أو أربعة، يجلس شاب أسود، غليظ الملامح، طويل القامة، بعينين خاليتين من كدر التجربة، وقد فصل بيننا ممر ضيق ممتد إلى نهاية الطائرة. لفت انتباهي أنه ظلّ حريصاً على متابعتي، بدقة. كنت أحسّ بأثر عينيه المسمرتين وهما تمسكان بعنقي. كما يحسّ المرء بياقة قميص تلتف باحكام منتصف نهار قائظ. أخذ ذلك يزعجني. ذلك أن مراقبة الناس هوايتي. كان من الصعوبة تقبل لُعبة تبديل المواقع تلك، عن طواعية. لم يمضِ الكثير، حتى بدأت أدرك أن قاموسه اللغوي ككل قد لا يحتوي هناك على كلمة إنجليزية واحدة. وقد ظللت أضبطه في أحوال معينة، وهو يشرئب نحوي هكذا بعنقه دافعاً برأسه كلّه إلى الأمام. كان ذلك يحدث الأغلب لحظة أن تمر مضيفة ما بعربة الطعام الصغيرة، أو حين يمر مضيف ما بعربة للمشروبات الروحية وغيرها، فيشير الوغد إليهما آنذاك صامتاً بأصناف المأكل أو المشرب. تلك الأصناف نفسها التي سبق له أن رآني أطلبها على بعد خطوات قليلة أمامه. قلت من غيظ في نفسي: "تباً له! هذا الوغد! لو طلبتُ سماً زعافاً لفعل"! منذ دقائق، بدأت الطائرة العملاقة تغادر الزرقة المطلقة للسماء، تقترب من مطار أمستردام، تهديء من سرعتها أكثر. معالم الأرض من ذلك العلوّ المنخفض بدت واضحة. أرض سهلية مخططة بدقة. القنوات تمضي في استقامةِ عابد. حتى غنج الريح لا يغريها بالاندياح خارج مجراها. الطرق سوداء. الجسور متلويّة في تداخلٍ آسر. بدا عامة كما لو أن كل شيء هناك قد لامسته يد الإنسان آلاف المرات. يد منذ فجر الخليقة سوَّت وبنت وعدّلت ونقضت وشرعت تعمل بلا فتور أو ملل على الشيء نفسه المرة تلو المرة، لا كلل يصيبها في سعيها المقدّس المحموم ذاك صوب كمال مستحيل. كنّا لا نزال في مطار أمستردام نقضي نحو أربع ساعات، قبل أن نستأنف رحلتنا الطويلة إلى ما وراء الأطلسي بطائرة أخرى. بدأت أتسكع داخل بهوّ المطار. أطالع وجوه الناس، أتمعن لأول مرة في تفاصيل قطعة من هذا العالم الذي يدعونه "أوربا"، عالم شغلنا منذ قرون.. لا يزال.. هذه القارة أنجبت هتلر.. نابليون.. جان جاك روستو وآنشتاين وشكسبير.. زرعت على لسان فانون غناء الثورة. كنت هائماً مستغرقاً بكلياتي في مطالعة ذلك الملمح من وجه القارة العجوز. أحياناً، أقف وراء حاجز زجاجي وآخر، أتطلع إلى أشياء باقية ببقاء وخلود الأرض نفسها، أشياء كما السهول والضياء والسحب وحركة الريح على فروع الأشجار، ربما ألمح أثراً ما لتلكم الأصابع التي تركت بصماتها على روح صديقي فان جوخ في زمان يبدو من "الآن" بعيداً ونائياً. لا شيء أثناء كل ذلك خطر على ذهني مجدداً من ذكرى مها الخاتم. لا أدري لماذا. لكأنّها لم تكن يوماً ما مركزَ حياتي الضائعة في بلاد الآخرين. فجأة، وجدتني أنتبه إلى كثافة أثر نظرته تلك المتلصصة بوقاحة وتحدٍّ سافر على عنقي. الوغد ظلّ يتبعني طوال تسكعي ذاك وتأمّلاتي تلك. لم أعثر في نفسي لحظتها ولو على محض ذرة واحدة من ذلك الحنق الذي سببته لي داخل الطائرة عيناه المتلصصتان. فقط، ابتسمت له كما قد يبتسم الغريب بمودة في وجه أخيه الغريب. اقترب مني إذ ذاك وهو يمد يده نحوي. وحيّاني، قائلاً بفخامة لا تُصدق: "اسمي ياسر كوكو تيه".