في لحظة الوصول تلك، إلى مطار وينبيك، لم يخالجني حتى أدنى قدر من فرح. الرهبة لم تكن موجودة هناك في داخلي. كان الغروب قد حلّ للتو. أذكر أنني توقّفت في صالة القدوم ضمن فوج صغير من اللاجئين وصل معي على نفس السفرية. أنتظر بذلك النوع من اللا مبالاة وصول متاعي قبالة حامل آليّ. كان شنطة متوسطة الحجم. أخرى صغيرة. لم أصطحب معي من القاهرة من بين عشرات المراجع.. مئات الكتب.. سوى القليل. كان من بين تلك الكتب كتاب سلاطين باشا "السيف والنّار". محتوى الكتاب سيرة ذاتية لأسير من أصل نمساوي في بلادٍ بعيدة صادف أن تكون وطني. سلاطين باشا هذا، وجد نفسه هكذا، في حياة مختلفة، بين قوم مختلفين، ولغة مختلفة. والموت بدا ماثلاً لعينيه في أي لحظة. مع ذلك، نجا، هذا "الوغد التاريخيّ"، بإعجوبة. "أي نوع من فروج النساء ينتظرني في هذه البلاد"؟ تساءلت في سري، بينما يقود مارتن الحافلة الصغيرة مغادراً المطار، متجهاً صوب المجال الحيويّ للمدينة. كان مارتن يبتسم طوال الطريق لأمر ما. كما لو أن الليلة تعده بموعد غرامي. لا يبتسم الغرباء في شرودهم ذاك سوى لأمرٍ مثل هذا!! ما لبث إسماعيل أن أخذ يتحدث في اجتماع قصير بنا عند مدخل البناية عن مخاطر ممارسة الجنس بلا واق وأشياء أخرى. كان إسماعيل يتحدث العربية باللهجة البغدادية. حين جاء على سيرة الجنس على ذلك النحو، لم يعكس وجهه أي علامة للبهجة. كانا، مارتن وإسماعيل، قد استقبلانا كمندوبين من مركز إعادة توطين اللاجئين الجدد في المدينة. بدا لي أن إسماعيل الحسن هذا في منتصف العمر تقريباً. قصير القامة. ضئيل الجرم. ثمة شيء غامض في شخصيته يدعوك للتعاطف معه على نحو ما. بيد أنه متكتم الأغلب لدرجة النفور. لا تدري بالفعل إن كان ما يتمتع به إسماعيل الحسن هذا من أدب أنثوي لعذراء لم تتجاوز عتبة باب بيت أبويها- نتيجة تهذيب صقلته تلك البلاد أم جراء خوف قديم زالت أسبابه برحيله عن موطنه الأصلي في العراق وطبع روحه إلى الأبد. أول ما رأيت في المطار من العراقي، كان ورقة عليها أسماؤنا.. عددنا.. الجهة التي قدمنا منها.. تاريخ.. زمن إقلاع الطائرة.. هبوطها. كما لو أنّه يراجع بدقة أوراق بضاعة تم إستيرادها للتو من وراء البحار. أما مارتن السائق، فكهل نحيف من إحدى دول شرقي أوربا، لعلها بولندا، ولا أدري على وجه الدقة لِمَ لم تكن تلك الدولة المجر؟ مارتن وُجِدَ بعد مرور أشهر مذبوحاً في شقته في نواحي حيّ "تاكسيدو"، من الوريد إلى الوريد. قيل وقتها إن في الأمر امرأة. المرأة غالباً ما قد تكون هناك! ظللت أفكِّر في مارتن طويلاً. وجه مأكول، مسحوب بذقن مدببة حادة، تتصدره عينان كبيرتان مكللتان بأسى غامض. أذكر أنني رأيت بعدها مارتن أكثر من مرة وهو يجلس وحيداً على مقعد خشبي عند أطراف حديقة سنترال بارك المحاطة بأشجار الآش مديراً ظهره لمركز إعادة توطين اللاجئين الجدد في الطابق الأرضي من عمارة كمبرلاند وراء شارع جانبي صغير يمر حذاء الحديقة ناحية الشرق. كان مارتن يواصل التدخين كعهدي القصير به بشراهة وروحه هائمة كالعادة في مكان عصيّة رؤيته. لم يطرأ على ذهني حين رأيت مارتن لأول مرة أن أيامه باتت في الحياة قليلة. يبحث الغرباء أحياناً عن قبور بعيدة وجنائز صامتة. كان يتردد هناك في قلبي صوت حصاة تدحرجها ريح خفيفة على سقف أحدب، حين عبرت بوابة زجاجية واسعة ضمن ذلك الفوج الصغير من اللاجئين. لم يكن الظلام ساد في الخارج بعد. كانت الأرض مشبعة مبتلة والطرق تتخللها بِركٌ صغيرة سائلة نحو مصارفها أما السماء فبدت غيمية قريبة ذات سحب رمادية داكنة بينما المطر الذي أخذ يتواصل خفيفاً لا تزال قطراته تتساقط من على فروع الأشجار المتناثرة بانتظام فيما الريح الباردة نوعاً ما تهب بصخب فجأة وتسكن. لكأن الهواجس تتملك إسماعيل الحسن. طلب منّا أن نقف قبالة باب العربة. أخذ صعودنا إليها يتم وفق قراءته للأسماء. عددنا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، بالكاد! هناك، في القاهرة، هرعتُ أنظر في خريطة كندا، ما إن علمت بوجهتي الجديدة، إذا بموقع وينبيك قريب من الحدود المشتركة جنوباً مع ولايتي منيسوتا وداكوتا الشمالية في أميركا. تلك بدت في حينه إشارة طيبة إلى أن شدة البرد لن تكون في وينبيك بمثل ذلك السوء الذي أخذ ينحدر إليَّ عبر روايات أولئك المنفيين فور أن علموا بنبأ اندماجي الوشيك، في الحياة الكندية. رؤية القلاع من الخارج غير رؤية القلاع من الداخل. ما إن استقر بي المقام داخل أجواء وينبيك قليلاً، حتى صدمني حقيقة أن المدينة ليست في نهاية المطاف سوى أبرد مكان في العالم يمكن أن تطأه قدما إنسان، بعد سيبريا. يا لبؤس موقعها السهلي المنبسط وسط كل ذلك العدد اللامتناهي من البحيرات. أذكر بجلاء ما حدث خلال ذلك الصباح من منتصف شهر نوفمبر. بعد مراجعة نفسي طويلاً، عزمت أخيراً على الخروج والتسوق. لقد دهمتني رؤية العالم، على ذلك النحو. كانت الطرق بيضاء صفراء هنا، قاتمة سوداء هناك، جراء المرور المتكرر للسيارات على طبقات الجليد المتراكم. الأشجار، أسوار المنازل، السيارات، الأبنية، أعمدة الكهرباء، حوامل إشارات المرور، الإعلانات؛ كل ذلك وغيره، بدا مغموراً داخل ندف قطنية وقطع ثلجية سميكة ورفيعة في آن لها أحياناً هيئة الملح المتكلّس.