جرائم القتل والسرقة والخطف والاغتصاب زادت في فترة الانتقال بالمدن والقرى والارياف، وانفرط عقد الأمن بدرجة كبيرة لا تخطئها العين، نقول هذا بناءً على الملاحظات اليومية من دون اجراء عمليات احصائية او مقاربات بين الوضع الراهن والسنوات السابقة لانتصار ثورة ديسمبر المجيدة، فرموز الحكم المنتقل لا يقدمون شرحاً مستوفياً وواضحاً لما آلت اليه الامور الامنية من تدهور مريع، ومازلوا يتشبثون بالحائط القصير (النظام البائد) واتخاذه وسيلة للهرب من مواجهة المواطنين، فكلما شكا المواطن من سوء المنقلب تأتيه الاجابة المعلبة والجاهزة المعتمدة على بغض وكره الناس للمنظومة الحكومية البائدة، واصبح الفرد لا يأمن على نفسه وعائلته اناء الليل واطراف النهار، الكنداكة الشابة امست في رهبة من امرها حتى لا تفتك بها ذئاب الازقة والحواري في اي وقت من الاوقات، والتاجر متوجس في متجره من اقتحام المسلحين المدججين بالاسلحة البيضاء والسوداء، والحاملون للهواتف الذكية يلتفتون يمنة ويسرة خشية أن يباغتهم ذوو التسعة الطويلة الممتطين للدراجات النارية ليخطفوا هاتفهم الخليوي، فالقتل صار حدث طبيعي اوساط مدن البلاد التي كان يرتعد سكانها من وجود جثة الكلب الضال المرمية بارصفة شوارعها. بلادنا بها ترسانة من الاسلحة الثقيلة والخفيفة واعداد مهولة من الجيوش والمليشيات، لو وجه نصفها لحماية وتأمين المدن والقرى والارياف لكفتها، لكن ضربت هذه الكيانات المسلحة حمى الغرض السياسي فتحولت الى مافيا همها الأول والأخير حماية منسوبيها ومصالحهم، وتسهيل وتسليك الطريق لقادتها للوصول والحفاظ على السلطة الخاصة بهم بصورة حصرية، فاختلطت الاختصاصات وتداخلت وغاب دور الشرطي الذي ذاب في بحر التوالي السياسي اللجي، وتماهى مع الاصطفاف الحزبي والولاء للنظام البائد، وبين هذه الضبابية والواجب الوطني للاجهزة الأمنية، ضاع المواطن المنتظر لقيادات الحكم الانتقالي كي يوفروا له الطمأنينة ويبدلوا خوفه أمنا، واصبح سكان العواصم والمدن يشكون لطوب الأرض بشاعة الجرائم التي طفح كيلها، لأول مرة تشهد هذه الحواضر انتشار ظاهرة الموت المجاني الرخيص، على ايدي مجرمين استمرأوا ارتكاب الموبقات في وضح النهار دون رادع ولا حضور لهيبة الدولة، وأخذ المستعجلون يحنون للحقبة الماضية ويمدحون العهد البائد ويندمون على تكليفهم لرموز الانتقال بمهمة حفظهم من المكاره. تحدي الأمن المجتمعي يجب أن يكون أولوية في اجندة حكومة الانتقال، وعلى رموز الانتقال أن يعوا ويعلموا بأن ما أهلك البائدين الذين سبقوهم بالظلم والعدوان الا لأنهم اهملوا شيئين اساسيين، هما الأمن والغذاء، هذان العاملان هما المحدد لاعمار الحكومات وسيرورتها، والمواطنون في رجاءهم لولاة امرهم لتحقيق هذين الواجبين كمثل الصبية المتصارعين حول رب البيت وهو محمّلاً باكياس الحلوى، فالعهد الذي بين الحاكم والمحكوم هو الوفاء بالحقوق الأساسية لهذا المحكوم، والتي في حدها الأدنى تتمثل في العنصرين المذكورين آنفاً، فلا فلاح ولا صلاح لحاكم اذا لم يقم بتوفير اساسيات مقومات الحياة للمحكوم، حتى ولو حمل (قفته) متسولاً الجيران لكي لا يجوع رعاياه ولا يعطشوا كما بشّر بهذه البدعة حاكم دارفور، فالجائع والخائف لا يعتمد عليه في بناء الدولة والوطن لأنه فاقد لشيء جوهري وضروري لتأسيس القواعد الراسخة للدولة المحترمة، فالابداع والابتكار لا يجتمعان مع الحرمان والرعب، والمواطن المسيطر عليه الذل والهوان لن يكون مواطناً صالحاً ونزيهاً، بل يصبح مؤهلاً للوقوع في فخاخ وبراثن الاستغلال. فوضى انتشار السلاح والتكالب على ولائم تقاسم الرتب العسكرية الكرتونية، والادعاءات الجوفاء من المتفلتين بأنهم مسؤولين من بسط هيبة الدولة، أمر يدعو للحيرة والاستغراب ويفرض على حكومة الانتقال أن تقوم بواجبها الثوري في حسم المجرمين في اقرب وقت ممكن، حتى لا يخرج الأمر عن السيطرة، وتسمية الاشياء بمسمياتها في هذه المرحلة الحرجة من عمر الدولة السودانية أمر لابد منه، ولا مفر من تفعيل دور الشرطة واخراج المليشيات من المدن، لتغيير المظاهر العسكرية التي اصبحت كاسية لشوارع المدن والحواضر، حتى تعود هذه الكيانات الاجتماعية العريضة لحالها الأول سليمة معافاة ومطمئنة من خطر تهديد السلاح، وحتى تستقبل رايات السلام البيضاء الناصعة والخالية من كل سوءات الجريمة ومشاهد نذر الحرب اللعينة، التي اصبحت محيطة احاطة السوار بمعصم الضواحي البعيدة وحول اطراف المدن القريبة، فالأمن ليس مسؤولية الجميع بحسب هذه المقولة المبهمة والغامضة والمجهولة، وانما الأمن مسؤولية الحكومة بالدرجة الأولى. [email protected]