لم تكن مشكلة شرق السودان مشكلة الفترة الراهنة ، ولم يكون سببها اختلاف الناظر ترك مع المكون المدني في الحكومة الانتقالية ، فشرق السودان يشكو من بعد الاستقلال كحال بقية ولايات السودان الأُخرى من التنمية غير المتوازية . يظهر ذلك جلياً بقيام مؤتمر البجا عام 1958 بقيادة دكتور بليا ورفاقه دكتور جرتلي ومثقفي الشرق والنظار والعمد للفت أنظار الحكومة المركزية لموت إنسان الشرق بالفقر والمرض في سفوح الجبال وأطراف المدن والقرى والتهميش . (1) كان مؤتمر البجا منذ البداية متسعاً لكل سكان شرق السودان ، ويتضح ذلك من دعوة دكتور بليا لتضافر كل أهل الشرق لحل مشكلة شرق السودان ، وذهب إلى أن مشكلة شرق السودان لن يستطيع البجا وحدهم حلها ، لذا وجدت دعوته لقيام المؤتمر صدىً كبيراً عند سكان شرق السودان ، وكمثال نجد الريح أبو الحسن وعز الدين سلمان من تجار الشمال الذين تحمسوا لقيام المؤتمر وقاموا بدعمه . بات مؤتمر البجا مابين العلن والنزول لسطح الأرض خلال فترات وحقب الحكومات فيشهد حراكاً وتطوراً أثناء الحكومات الديمقراطية، ثم بياتاً خلال الحكومات العسكرية فكان إن اكتسح مؤتمر البجا أول انتخابات برلمانية بعدد عشرة نواب في الجمعية التأسيسية . (2) كانت صدمة المؤتمر كبيرة بلقاءه بالرئيس المخلوع عمر البشير عند زيارة البشير لبورتسودان خلال السنوات الأولى من الإنقاذ ، حاول البجا التنبيه إلى مطالبهم المتمثلة في التنمية ، وأن تتاح لهم المشاركة في حكم مناطقهم وذلك عبر خطابهم الذي أعدوه لاستقباله والترحيب به ، فكان رد عمر البشير على مطالبهم (لا نولي إلا القوي الأمين ولا نأتمر بإمرة أحد) بالرغم من أن كان من بين هذه المجموعة التي قابلت البشير من أبناء البجا من لهم الولاء للمؤتمر الوطني منهم محمد طاهر ايلا مدير الميناء الأسبق ، الذي تم تعيينه من بعد وزيراً اتحادياً من قبل حكومة المؤتمر الوطني ، ومحمد آدم هاقاب المسئول الأول للإنقاذ في ولاية البحر الأحمر ، ليعيد شريط الرئيس عبود في لقاءه بأهل البجا من قبل ورفضهم مطالبهم ، وتلك المقابلة الغريبة التي قابل بها الرئيس عبود زواره من البجا وقال لهم (إن الثورة مستعدة لضرب كل من يقف في طريقها) وتم من بعد ذلك إبعاد ونقل المسئولين من البجا من الشرق محمد مختار مصطفى ورفاقه في الميناء إلى عطبرة وعلى جناح السرعة ، ونقل الدكتور محمد عثمان جرتلي إلى الجنوب ، كما نقل كذلك حامد على شاش . كاد الموقف في الشرق أن ينفجر لولا اللطف الإلهي فقد حاول بعض الشباب ممن حضروا مقابلة الفريق عبود في أركويت ، أن يشعلوها ثورة على عبود ونظامه ومنذ ذلك اليوم ظلت فكرة الحركة المسلحة تراود أذهانهم . نجد أن مطالب البجا في أن يحكموا أنفسهم لم تتحقق إلا في عام 1980م عندما أصبح حامد على شاش حاكماً للإقليم ، وأيضاً عندما أصبح محمد عثمان حامد كرار حاكماً للإقليم بعد انتفاضة أبريل (1985م 1989م) . (3) ظل أهل الشرق يناضلون لفترات طويلة من أجل انتزاع حقوقهم المشروعة في التنمية والحكم الذاتي من الحكومات المركزية المتعاقبة ، و اتخذ هذا النضال طابعاً سلمياً طوال الفترات السابقة حتى أن الشاعر محمد عثمان جرتلي يقول في قصيدة المؤتمر(لسنا دعاة فتنة وانفصال) فلم يطالب المؤتمر يوماً بالانفصال ، ولم يتحول إلى الكفاح المسلح إلا خلال فترة التسعينات بقيادة الجناح المسلح لمؤتمر البجا ، الذي انضمت له الأسود الحرة من قبيلة الرشايدة ليكونا جبهة شرق السودان ، ولم تتوقف تلك الحرب إلا في عام 2006م بتوقيع اتفاقية شرق السودان بين الحكومة السودانية وجبهة شرق السودان بوساطة اريترية . شهدت تلك الفترة أحداث بورتسودان في مايو عام 2005 م . لمقابلة الحكومة مظاهرة سلمية نسبة للاستغناء عن كثير العمالة في ميناء بورتسودان بالعنف مستخدمة كل أساليب القمع ، حيث أدى ذلك لقتل 29 شخصاً مما أدى لتعميق إحساس الغبن ومرارة التهميش ، ليتجه من بعد ذلك الكثير من الشباب للانضمام للجناح المسلح . (4) لكن ما الذي دفع بالمشكلة للسطح الآن ؟ . الثابت أن مسار شرق السودان باتفاقية جوبا للسلام ، والذي يرى المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة بقيادة الناظر ترك أنه لايعبر عنهم ، وهضم حقوقهم في شرق السودان ، رغم أن الذي قاد ملف السلام في جوبا هو المكون العسكري ، إلا أن المجلس الأعلى لنظارات البجا اتخذ من رئيس الوزراء حمدوك وبقية المكون المدني في الحكومة الخصم، حيث شملت مطالبهم استقالة رئيس الوزراء وحل الحكومة المدنية ، ليأتي سقف المطالب مرتفعاً بدلاً من أن يشمل مطالب الشرق ، ليسارع الفلول وكل صاحب منفعة أو غرض ويتبنون هذه المطالب سوى كان ذلك بعلم ترك وجماعته أم لا ، ليتم وضع المتاريس على الطريق القومي وقفل الخط الواصل للبترول وتعطيل الموانئ بهدف شل حركة البلاد وصناعة الاختناقات حتى ترضخ الحكومة لمطالبهم . (5) تنحصر المظاليم التاريخية لشرق السودان في غياب التنمية ، حيث يشهد الإقليم أكبر معدلات للفقر وسط أقاليم السودان ، رغم الثروات الكبيرة من الميناء ومناطق التعدين والزراعة ، وتتعرض النظم المعيشية التقليدية لسكان المناطق الريفية لتدهور مريع نتيجة لتضافر عوامل بيئية وسياسية واقتصادية ، فأدت هذه الأوضاع إلى فجوات غذائية متكررة، ونتيجة لموجات الجفاف التي ضربت الإقليم كان تدهور المراعي والقضاء على جزء كبير من الثروة الحيوانية ، فأثر ذلك تأثيراً ملحوظاً على الرعاة ومعيشتهم ، وتنتشر الأمراض خاصة مرض السل كنتيجة حتمية للفقر وسوء التغذية ، والمظاليم التاريخية التي تعرض لها الرعاة وصغار المزارعين السواد الأكبر من السكان الأصليين لمنطقة شرق السودان بالتغول على أراضي الرعي وأراضي صغار المزارعين ، وعدم قيام مشروعات تدعم هاتين الفئتين ، ثم غياب التعليم ومعاناة إنسان الشرق من الفقر والمرض والجهل والتهميش وتردي البيئة حتى يصعب في بعض المناطق الحصول على مياه الشرب ، ثم الهجرات الكبيرة بسب النزوح واللجؤ مما سبب الضغط على موارد المنطقة القليلة والمتدهورة أساساً. ليأتي صندوق أعمار شرق السودان كثمرة من ثمرات اتفاقية شرق السودان واقعاً عليه عبء التنمية ، ولكن هل أدى الصندوق دوره كاملاً وقاد التنمية في المنطقة ؟ . الثابت أن الصندوق لم يلعب دوره المناط به ، لعوامل تتعلق بتكوين إدارة الصندوق وطريقة عمله والمخالفات الكبيرة في المعاملات المالية وطريقة تنفيذ المشروعات ولم يلبي طموحات أهل الشرق وحلمهم بالتنمية . المسلم به أن الحوار وجلوس كل الأطراف على مائدة مستديرة ومن بعد التخطيط السليم وإشراك إنسان الشرق في التنمية هي الحلول الناجعة لمشكلة الإقليم . [email protected]