ما ينبغي لفيلسوفٍ ينعمُ بحكمته وفضيلته الخاصَّة، هادِئاً كالماء متواضِعاً كأعشاب الأرض، قد أدركَ سِرَّ وجوده فأوقَفَه، وفَهِمَ معنى عُمْرِه فنَذَره وسط هذا الرُكَام من عالَمٍ مُثْخَنٍ بالأكاذيبِ والجُرُوحِ والآلامِ والأوهام، للبحث عن الحقيقة أَنَّى وجدها فهُو أولى بها. ما ينبغي لهُ أن يَتَرَدَّى إلى القاع المزدحم بالعُوَام، والرجرجةِ والدهماءِ والهُوَام، فيتورَّط في نظرٍ في الشأْن السياسي الذي هُوَ شأْن العقول الصغيرة والمتوسطة، والأراذِلِ مِمَّن تَلِدُ النساء. لَكِنِّي، ومع ذلك وبرغمه، أُجِيزُ لنفسي كَلِمةً على مذبحِ الوطن، فَإلَيْها :- إنَّ المشكلة السياسية السودانية هي من الضخامة والتعقيد لدرجة أنَّنا لن نتمكن أبداً من التوصُّل لحلٍّ لها وحدنا. ومسار الفكر عندي لا يُمَرِّر فكرة أننا قادرون على الوصول وحدنا بثورتنا السودانية إلى سِدْرةِ مُنْتَهاها. لا بُدَّ من عونٍ يأتينا من الأرضِ أو السماء. لم تُسَجِّل التجربة حالةً، ولا برهنت حكمةُ العصور يوماً على أنَّ ضعيفاً انتصرَ على قَوِيّ، ولا أعزلاً انتصرَ على مُسَلَّح. ما انتصرت الثورة الإنكليزية في القرن السابع عشر إلا بانتصار جيش البرلمان الثوري في معركة نيسبي الحاسِمة 1645م، ولا انتصرت الثورة الفرنسية يوم الباستيل في القرن الثامن عشر وفي يوم التويلري إلا بجماهير مسلحة فاقَ عددها أضعاف عدد الجيش الملكي والمرتزقة النمساويين والألمان الذين كان يثق بهم لويس السادس عشر أكثر من الجيش النظامي. لم تكن حينذاك مدفعية حديثة، لذا كانَ التفوق للعدد الأكبر. وقبلها لم تُحْسَم الثورة الأمريكية لصالح الثوار والإستقلال إلا بواسطة حَمَلة البنادق وأبناء الحرية المسلحين. ومَرَّةً أخرى وفي روسيا القرن العشرين لم يحسم البلاشفة الثورة لصالحهم في بتروغراد إلا بالسلاح حينَ انضمَّ صف ضباط وجنود الحامية إلى صف الجماهير بأسلحتهم. هذه هي الأربعة ثورات الحقيقية في التاريخ البشري. حقيقية بمعنى أنها توصَّلت إلى تشكيل حكومتها الثورية الحقيقية، وفَعَّلت الشرعية الثورية. في الحالة السودانية، فإنَّ ثورات أكتوبر 1964م، وأبريل 1985م، وديسمبر 2018م وإلى تاريخه، هي في مجموعها من نوع الثورة الناقِصة. الناقِصة ليسَ تلطيفاً ولا تخفيفاً للفاشِلة، لأنها لا تزالُ مستمرة، ولكن إلى أُفُق مسدود أو يكاد إلا من ضوءٍ في آخر النفق. إنَّ انحياز جيش النظام القديم المُدَّعى في الثورات إلى الثورة هو نوع أُكْذُوبة صلعاء معناها قطع طريق الثورة. فإذا ما أُرِيدَ لثورة أن تنتصر حقاً وبنفسها لا بُدَّ من تسليحها بقوة أكبر من قوة النظام القديم، وإلا فانتظار العون من خارجها كما حدثت في ثورة المجر سنة 1956م. يبدو، بل واضح بالنسبة لي على الأقل، أن الدكتور حمدوك يسير على هُدَيً من هذا الخيار الأخير. التماس العون الخارجي لهزيمة النظام القديم بجيوشه ومليشياته، واحلال نظام جديد بمؤسساته محل النظام القديم. "شُكْرِي" [email protected]