قال الشاعر والروائي الفرنسي الشهير فيكتور هوجو : "حين أحدّثكم عني ، فأنا أتحدثُ عنكم ! . أيها الجاهلون من قال لكم إنني لستُ أنتم ؟" . لدى كلمتان أود أن أقولهما: واحدة بالعقل ، والأخرى بالقلب . بالعقل أقول : إنّ هذا الرجل الأعزل ، الذي لم يأتِ على ظهر دبابة ، ولا ترافقه المليشيات ، ولا يملك جبال الذهب ، ولا تناصره الجياد والجنجويد، ولا يسنده بيت عز ونسب وحسب ، ولا بيت مال وعيال وعقار ، قد هزم بسماحته ، وابتسامته ، وتفاؤله ، وحكمته ، وببعد نظره ، وتواضعه ، انقلابَاً عسكرياً ، قادته شرذمة ذات بأس مدججةً بالدبابات ، والمليشيات ، وبالجياد والجنجويد ، وبجبال الذهب ، والشركات الأمنية ، ومنظومات الصناعات الدفاعية. سيسجل التاريخ أنّ هذا الرجل ، الذي قلّ أجاويده فجأةً ، وكَثُر مستضعفوه ومستصغروه وشانئوه ، في هذا الزمان الماكر ، هو القائد السوداني الوحيد الذي وضع قاطرة الوطن على سكّتها الصحيحة ، ليصبح السودان ، في مقبل السنوات ، دولةً – قِبلةً يؤمُّها الناس ويأتمّون بها. وسيذكر التاريخ ، شاء من شاء وأبى من أبى ، أن اللبنات التي وضعها هذا الرجل ، خلال هاتين السنتين ، ستظل هي الأساس الذي قامت/ستقوم عليه الدولة السودانية المدنية الحديثة. وسيذكر تاريخ سير الرجال العظماء من بني السودان أنّ عبد الله ود آدم ود حمدوك كان قائداً بسيطاً ، حكيماً ، صبوراً ، زاهداً في الظهور وفي السمعة والصيت ، لا يريد التهليل والتكبير من أجله ، كما كان يفعل سابقوه ، ولا يريد لنفسه هالة ولا هليمانة ، ولا هِتِّيفة ولا مدّاحين . وفي حين كان أسلافه من رؤساء السودان غوغائيين جوّاظين صياحين ، جاء هو ليعمل في صمت ، دون جلبة ولا ضوضاء ، فإن نطق قال خيراً ، وإن صمت كفى العباد والبلاد شر عثرات لسانه . لقد طعنوا منذ البداية في أهليته لمنصب رئاسة وزراء حكومة الثورة ، فأصبح في وقت وجيز أكثر زعيم سوداني وجد القبول في المحافل الدولية النافذة ، فعاد ذلك بالنفع العظيم على البلاد ، سواء من حيث تطبيع وجود السودان في المؤسسات المالية والمجتمع الدولي ، أو في الشروع في إعفاء الديون وتقديم المساعدات والتمويل . ووصفوه بالضعف والتردد ، ولكن ها هو التاريخ قد سجّل ، بالفعل ، أنه اتخذ أشجع وأنفع القرارات في تاريخ السودان ، إلا وهي قرارات تحرير العملة ورفع الدعم . اتخذ حمدوك تلك القرارات التي كان أسود إفريقيا "ومرافعينها" من رؤساء البلد يتحاشون اتخاذها خشية أن يثور عليهم الشعب . ويشهد التاريخ أن رؤوساء السودان المتعاقبين ، حرصاً منهم على استمرار جلوسهم على كرسي الحكم ، كان يرشون الشعب السوداني بأرخص خبز في العالم وأرخص وقود في العالم ، لكن على حساب الصحة والتعليم والتنمية وحقوق الإنسان، وحقوق الأجيال القادمة . لقد صحح حمدوك بشجاعته هذا التشوه القاتل ، وجنّب السودانيين أكل ذلك السُحت الماحق. وطعنوا في وطنيته ، فأثبت وطنيته حين رضي بالعودة إلى الشراكة مع المكون العسكري ، رغم علمه التام بأن ذلك سينال من "رصيده الثوري"، وسيؤثر في شعبيته ، بعد وقوع الانقلاب الآثم . لماذا فعل ذلك؟ لأنه يعرف أن هدف الثورة ، وهدف دماء الشهداء التي سالت ، هو إقامة الدولة المدنية ، دولة الحرية والعدالة ؛ ولا يصون الحرية والعدالة إلا السلام ، ولا يُستدام السلام إلا باستمرار الشراكة إلى أجلها المحدد لها. هذا هو العهد والميثاق . ولئن تسير على طريق طويلة شائكة خير لك من عجلة تعقبها الندامة. لقد عرف حمدوك الطريق إلى تحقيق الهدف، فركز عليه ولم يحد عنه ؛ وعرف شركاءه في الحكم ، فتعامل معهم بما يحفظ هذه الشراكة حتى يتحقق الهدف منها. وهو يعرف رأي الشارع في هذه الشراكة ، ولكنه يعرف أيضاً رأي الخارج فيها . فالعالم الخارجي يؤمن بأن خروج العسكر من الحكم إنّما هو "سيرورة"، process ، لها خارطة طريق ، أو جدول زمني ، وليس عملاً يتم "بالضربة القاضية" كما يريد الحالمون . وإذا كان الثوار ينادون بإصلاح المؤسسة العسكرية ، فإنّ معظمهم يريد إصلاح المؤسسة العسكرية بدون مشاركة العسكر ! وتلك مفارقة ، لأنك لا يمكنك إصلاح قطاع التربية والتعليم ، مثلاً ، بدون إشراك المعلمين ، ولا قطاع الصحة بدون إشراك الأطباء والممرضين في الكبيرة والصغيرة . وسيسجل التاريخ أيضاً أن المخذول من قومه حمدوك، أو المغدور من زملائه حمدوك ، هو أكثر من صبر على الأذى ، أذى العدو ثم الصديق ! لقد ضعّفوه وخوّنوه وضيّعوه! الأعداء والأصدقاء على حد سواء . فظل دوما بين نارين . الأصدقاء لا يحبونه إلا عندما يفعل ما يحلو لهم . ويريدونه ألا يخالفهم لا في حق ولا في باطل . فإن خالفهم سلقوه بألسنة حداد . وخوّنوه وضعّفوه . ذلك لأنهم لا يفرقون بين قيادة الثورة وبناء الدولة . يريدون من حمدوك أن يتجول داخل دواوين الدولة وكأنه شفّاتي في مظاهرة . أما فهو فكان يدرك أن الثورة هي عمل الثوار ، أما بناء الدولة فيتم بعقلية رجال الدولة. وكان يريدهم أن "يشتغلوا شغلهم ويشتغل هو شغله". لقد ظل منذ البداية يعمل على ترويض الأفاعي ، وملاطفة الذئاب، وملاينة الحانقين ، ببراعة وحنكة ، مُطَعِّماً نفسه بالصبر الجميل ، والتفاؤل الكبير ، والإيمان العميق بربه وبشعبه. إنّ حقن دماء أبناء وبنات الوطن فُضلى جميع الفضائل . وهذه قاعدة في الدين وفي الدنيا . فمن أحيا نفساً فكأنما أحيا الناس جميعاً ، ومن قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً . أما الذين يتبعون أهواءهم ، و"يركبون رؤوسهم"، فيستهينون بالموت وإراقة الدماء! فإذا كان الثوار مستعدين دائماً للتضحية بالدماء ، فإن حمدوك يدرك أن التضحية لا تكون فقط بالدم ؛ بل ربما تكون التضحية بالدم أهون من تضحيات كثيرة أنفع وأجل . فهناك التضحية بالسمعة الشخصية ، والتضحية ب"الرصيد الثوري"، والتضحية بأن تصبر على الاتهامات المنهالة عليك بالتخوين وبالجبن ، وبأنك أصبحت "حذاء للعسكر". وهناك التضحية بأن تصبر على العدو حتى لا يغدر بالوطن، وليس أقل منها الصبر على تجهُّم الصديق والقريب عليك . كل ذلك يمكن أن يكون تضحية في سبيل الوطن . نعم ، الدم مسترخص فداءً للوطن ، ولكن الدم ليس هو دائماً أنفع ما يُوهب للأوطان : يمكنك أن تقدِّم لوطنك صبرك ، ومحبة مواطنيك واحترامك لهم رغم جفوتهم لك ورغم اتهامهم لك بكل ما تكره . قدِّم لوطنك الإيثار ، والتواضع ، وحسن الخلق ، وحسن المعاملة ، وحسن الظن بإخوتك رغم الخلاف والاختلاف . فربّ وطنٍ تغطّتْ أرضه طويلاً بدماء أبنائه وبناته ، إلا أنّ تلك الأرض لا تزال عطشى للسماحة والتسامح والتسامي والعمل . القاعدة العامة هي أن حياتك من أجل وطنك أنفع لك ولوطنك من موتك من أجله ؛ إلا حين لا يكون من الموت بد . حينئذ فقط يصبح من العار أن تعيش جباناً. من مشاكل كل ثورة الاغترار الثوري : أن يغالي الثوار في تصور حدود قوتهم ، والاستهانة بمكر خصومهم ، فيطلبون تحقيق كل شيء الآن ، فوراً . هؤلاء لم يتوقفوا متفكرين عند صلح الحديبية ، وكيف وافق الرسول الكريم ، عليه الصلاة والسلام ، على حذف البسملة من الاتفاق ، ورضي بالرجوع عن دخول مكة بدون عمرة . أما الاغترار الثوري فيدعو أصحابه إلى دخول مكة عنوةً ، فوراً. ومن مشاكل الثورة أيضاً ما أسميه "البلم الثوري". وهو أن يعتقد بعض الجهلة أن مناصب الثورة مثل الجوائز . فمن أعطي منصباً كان كمن حظي بجائزة ، فإن أساء كانت عقوبته حرمانه من ذلك المنصب ، أو تلك الجائزة. أعرفوا تماماً أن أخاكم حمدوك لا يرى في منصبه جائزة ولا منحة . ولا يشعر بمنةّ عليه من أحد . فالمنصب عنده مسؤولية وأمانة ثقيلة . لا يريدها ولا يتشرف بها ، فلا يأتينَّ أحدٌ ليمتنّ عليه بالقول "إن الثورة جابتك". بل هو جاء تلبية لنداء الواجب . فإن بقي في المنصب ، بقي فيه على كره ، لا متشرّفاً ولا متنفّعاً ، وإنْ ترك ذلك المنصب – ونسأل الله ألا يفعل – فسوف يشكر الله أن كفاه شرا كبيراً. نعلم جميعاً أن عبد الله حمدوك ظل طوال أيام الإقامة الجبرية في تشاور مستمر مع أهل الرأي ، من شتى المشارب ، واتفقوا معه على الخطوة التي استصوبوها معا ، فلما اتخذها ، وعلموا أن الشارع رافض لها ، انفضوا عنه ، وتركوه وحده ، لم يجد منهم ولياً ولا نصيراً ، ولكن كفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً. وإلى هنا آتي إلى الكلمة التي أقولها من القلب ، وهي كلمة مقتضبة ، نابعة من الإيمان القاطع بقانون رب العباد : ما تواضع أحد لله إلا رفعه ؛ فتواضعوا لله مع حمدوك ، وأبشروا برفعة السودان . حمدوك هو أنت ، أيها الغافل المسكين ، يا من لا دبابة لك ، ولا مليشيا ، ولا حركة مسلحة ، ولا جبل ذهب ، ولا جياد ولا جنجويد ، وليس معك إلا الثورة في جوانحك ، وحب الوطن في قلب. فإياك أن تعادي نفسك! . [email protected]