هنالك تعبير شائع باللغة الإنجليزية يقول " Missing the forest for the trees" ويمكن ترجمته حرفيا "التركيز في الشجر يحجب عن رؤية الغاية". أما دلالته المعرفية فتعني عدم القدرة في فهم أو تقدير الإطار والسياق الكامل لمشكلة بعينها، أو وضع ما بسبب الإصرار على التركيز على أجزاء أو جوانب محددة وإهمال البقية. النتيجة الطبيعية في حالة وقوع الباحث أو المحلل في ورطة ال "Myopia " أو ضيق الأفق وقصر النظر، فإن قراءاته وخلاصاته في فهم وتفسير الواقع ستكون قاصرة، لأنها ستوصف شجرة أو شجر بعينه وتنصرف عن بقية الغابة، وعليه الخلاصات التي سيتوصل إليها المحلل والتي قد تربط حدوث ظواهر بعينها بأسباب محددة (كتطبيق عملي لما يعرف بال Rationality أي العقلانية) ستكون قاصرة، ومثلها ستكون التدخلات المقترحة في معالجة الظواهر، لأنها لا تخاطب كل جوانب المشكلة. في علوم السياسات العامة، مثل هذا الخطأ أصبح بمثابة البديهيات كحصيلة طويلة لتطبيقات نظرية التعقيد "Complexity Theory " القائمة على محاولة فهم الظواهر من عدة جوانب لتجنب الخلاصات القاصرة. في علوم اجتماعية أخرى نفس مبادئ نظرية التعقيد تعرف بال "intersectionality " أو التقاطعية، وتعني في جوهرها أخذ عدة عوامل وجوانب في فهم وتحديد المواقع الاجتماعية للأفراد. في تقديري، إن جزءاً كبيراً من أسباب التباين في المواقف السياسية بين جل الفاعلين الثوريين ليس له علاقة بما هو ظاهري كما يبدو، أو كما يصوره كتاب البيانات والمواثيق التي تظهر جوهر الخلاف وكأنه ما بين قوى محافظة تسعى للسيطرة على التغيير والتحكم في مآلاته حتى لا تحدث خلخلة كبرى في البنية الاجتماعية، مما سيحافظ على شبكة المصالح التقليدية وفق الشروط القائمة لعلاقة السلطة بالثروة، (وفي أحسن الأحوال نتيجة هذا المدخل هو تغيير شكلي لا يغير في طبيعة علاقة السلطة والثروة كما يُصوّر)، وقوى تسعى لتغيير جذري أهم ملامحه تجذير السلطة في القواعد وبناء نظام سياسي ودولة وفق عقد اجتماعي جديد سيؤدي بالضرورة إلى إعادة تعريف المصالح، بما في ذلك تقاسم الموارد المادية ومصادر القوة نفسها بتفكيك أصل السلطة وإنهاء مركزيته. للذين يكترثون لقراءة كل البيانات التي تصدر من كل الفاعلين السياسيين من أمثالنا، ربما يكون ما أوردته في عالية هو ما يبدو كجوهر وأصل الخلاف، ولكن سرعان ما يتأمل القارئ المدقق في بيانات القوى الموصومة بأنها قوى محافظة وتعمل على تصفية الثورة حتى تتضح حقيقة واحدة بائنة، أن كل هؤلاء الفاعلون (المختلفون افتراضاً) يتحدثون عن نفس المطالب والتطلعات. أصل الخلاف يمكن إرجاعه إلى، إما: 1) أحكام مسبقة من قبل الفاعلين عن بعضهم البعض نتيجة لممارسات سابقة. 2) أو غياب ثقة. 3) أو محض عبثية سياسية لا علاقة لها بما هو موضوعي وعقلاني، هذا فيما يتعلق بتفسير أسباب الخلافات التي هي موجودة في مخيلة الفاعلين السياسيين عن بعضهم البعض أكثر من وجودها في مواقفهم المعلنة. موضوعياً ليست هنالك ضرورة لأن تتطابق الرؤى بين كل الفاعلين، بل الضروري هو كيفية إدارة التنوع في الرؤى. هنالك جانب آخر مهم في أسباب الخلافات وهو جوهري و معرفي، هذا يتعلق بقراءة الواقع وتفسيره. في ظني، هنالك بعض الفاعلين الذين ما زالوا يتحدثون عن الدولة السودانية كشيء خيالي في المطلق، وليست لهم أدنى معرفة واقعية بطبيعة هذه الدولة الآن وما آلت إليه، وهذا الأمر الذي يجعل البعض يتحدث عن مطالبة الدولة بالاضطلاع بمهامها الأساسية المتمثلة في احتكار العنف واستخدامه وفق إطار دستوري وقانوني، ومنع الآخرين من استخدامه، إنفاذ التعاقد، وتنظيم المجتمع باستخدام السياسات العامة. أندهش في كثير من الأحيان حين أقرأ البيانات والمواثيق التي تطالب بتقديم الجناة لمحاكمات عادلة، وتوفير العلاج والتعليم المجاني، سبب دهشتي ليس في عدالة ووجاهة المطالب، بل هي في اعتقاد كتاب هذه البيانات أن هنالك دولة وجهاز دولة به قدر من الكفاءة والاحترافية والنزاهة لتلبية أي من هذه المطالب. وفي التحليل الذي يفترض وجود دولة يكمن الخلاف الابستمولوجي، فظللت أحاجج منذ وقت أن الدولة السودانية مختطفة وأجهزتها المختطفة توظف لإكساب شرعية اجتماعية وسياسية لعصابات منظمة لها امتدادات إقليمية. الأحرى بدل مطالبتها بتحقيق العدالة وإنصاف المظلومين وتوفير التعليم المجاني ومعالجة المرضى أن نعمل على استعادتها وإعادة بنائها، فهي بالفعل تلاشت في جل أرجاء البلاد ولم يبق منها إلا مظهر عنف السلطة. سوء فهم الحقيقة المتعلقة بطبيعة الدولة هو في ظني جوهر الخلاف وليس ما ينشر في هذه البيانات. وسواء لأسباب الخلافات الظاهرية أو لسوء فهم وتحليل الواقع كما أشرت أعلاه، حالة الثورة السودانية وحراكها السياسي أوصلنا إلى مرحلة الضياع بين الصفق والفروع، وقليل منا من يرى الشجرة أو الشجر، أما الغابة فأصبحت وكأنها من عوالم الميثولوجيا حين تذكر في متن التحليل. الصفق هو افتراض ما يقوم به أي فاعل سياسي، هو الشيء الوحيد في المشهد السياسي، والفروع هو افتراض أن ما يقوم به الآخرون لا يصب في نفس الهدف الذي يسعى له فاعلون آخرون. أما الشجر فهو معركة ذات المواثيق والمبادرات. خلاصة القول، الغابة التي أصبحت نسياً منسياً في خطابنا السياسي هي الهدف الكلي المتمثل في الوصول إلى دولة مدنية ديمقراطية تقوم على المواطنة المتساوية وتصون الكرامة والحقوق، والأهم هو التوافق على آليات بناء هذه الدولة مع تطوير وسيلة ندير بها خلافاتنا الظاهرية وتصوراتنا الناتجة من قراءات معرفية مغايرة للواقع. الديمقراطي