كان أخر ما توصلنا إليه في مقالنا السابق، الذي حاول الانتهاء إلى نتيجة ما بصدد مآلات ثورة ديسمبر المجيدة، هو أنه ومن خلال أحداث السنين الأربع من عمر الثورة، فرزت ثلاث كتل رئيسة، هي كتلتان تمثلان مجموعة "قحت "بعد انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر: الكتلة المركزية المكونة من بعض الأحزاب التى عرفت إعلاميًا ب "أربعة طويلة" وأغلبها ينتمي إلى قبيلة اليسار ذات التوجهات العربية بالإضافة إلى حزب الأمة القومي، وقد تحالفت مع المكون العسكري خلال حكومات ما بعد الثورة إلى أن انقلب عليها. ثم كتلة ما يسمى ب "الاتفاق الوطني" وتتكون من بعض الحركات المسلحة التي ظل ممثلوها موجودون بمؤسسات السلطة حتى بعد الانقلاب، إضافة إلى جماعة اعتصام القصر والذين دعا بعضهم صراحة المكون العسكري لاستلام السلطة، ثم استمروا في تمثيل المكون العسكري في كل تصريحاتهم ولقاءاتهم الإعلامية وأصبح اتجاههم هو السائد في هذه الكتلة. أما الكتلة الثالثة فهي كتلة "الحل الجذري "وتمثلها لجان المقاومة في الشارع والاحياء ومجالات العمل إضافة إلى الحزب الشيوعي والحركات المسلحة غير الموقعة على اتفاق جوبا للسلام. وقلنا في ذلك المقال، أن انتصار الاتجاه الثوري، الذي نظن أن كتلة الحل الجذري هي التي ظلت تمثله من خلال شعارات اللاءات الثلاث وكذلك المواقف العملية من محاولات الهبوط الناعم الداخلية والمدفوع إليها من الخارج، لن يتم إلا إذا دعمه توازن القوى الذي يتمثل في انضمام أصحاب المصلحة الحقيقية إليه. وأشرنا في هذا الاتجاه إلى أن هذه الكتلة تزداد يومًا بعد يوم، ليس من حيث العدد برغم أهميته، ولكن من حيث النوع. فقد لا يلحظ البعض التغيير "الجذري" الذي طال مناطق الهامش بدرجة أن من يدعون تمثيله أو يحلمون بالدوائر المغلقة هناك عند حدوث الانتخابات التي يسعون لها على افتراض استمرار الوضع على ما كان عليه قبل الثورة وقبل الثلاثين سنة العجاف من عمر الإنقاذ، التي كان من أقل نتائجها كفر الإنسان العادي في السودان بل وفى العالم أجمع، بالخلط بين الدين والسلطة. ولعل بداية الثورة من خارج العاصمة وخروج الملايين من سكان الريف في كل مرة تواجه فيها الثورة خطرًا واضحًا، بالإضافة إلى استمرار الثورة رافعة نفس الشعارات الأولى خلال أربع سنوات، لعل كل هذا يؤكد أنها ستستمر وتنتصر. لهذا دعونا في ذلك المقال ونكرر الدعوة لأصحاب المصلحة الحقيقية- الطبقية- إلى الانضمام إلى الركب بوضع الرجلين مع كتلة الحل الجذري. ونحن نعلم أنه في نهاية الأمر فإن من سينضم لن يكون غير صاحب مصلحة حقيقية في قراره ولا نتوقع من من يسعون إلى السلطة بهدف استخدامها لمصلحة طبقية أو فردية أن ينضموا. ولعل من يراجع مواقف الذين لا يزالون ممسكين منتصف العصاة سيجد أنهم يترددون في غيهم ويحاولون تبرير مواقفهم بنفس الصورة فهم يحاولون التفاهم مع العسكر والمجتمع الدولي رغبة في شيء من السلطة والثورة حالًا، وفي نفس الوقت يسعون إلى إشعار الشارع بأنهم معه وأنهم فقط يسعون إلى حل سياسي يجعل من الممكن الوصول إلى ديموقراطية حقيقية بعد فترة انتقالية قصيرة! ولكن عند تحليل مثل هذه المزاعم، نجد التالي: – لقد كانوا، طوال الفترة التي يدعون فيها أنهم مع مطالب الثورة، يتفاوضون مع العسكر بشكل مباشر وغير مباشر، وإلا فكيف أمكن الوصول إلى "تفاهمات" أساسية وعلى رأسها دستور للفترة الانتقالية في المرحلة الأولى من التفاوض، ثم يدعون الآخرين إلى التفاوض على ما تبقى؟ وماذا تبقى بالفعل؟! – قلنا في المقال السابق المشار إليه، إن الثوار يدعون الى الاستمرار بالثورة الى تحقيق شعاراتها الأساسية، التي يمكن تلخيصها في "بناء سودان جديد" محدد الملامح من أساسياته حل القضايا الرئيسة التي أقعدته من الوصول إلى الوضع الذي تؤهله له كل الامكانات فيما عدا القيادة ذات البرامج المتفق عليها من ومع أصحاب المصلحة. بينما يدعو دعاة الهبوط الناعم إلى حل سياسي بدعم من المجتمعين الإقليمي والدولي، الذين لا تخفى نواياهم التي تخدم مصالحهم في الأساس، تلك المصالح التي كانت على رأس أسباب قعود المجتمع السوداني عن تحقيق سودانه الجديد! – أثناء وجود جماعة المركزي في السلطة، تركوا الحبل على الغارب للمكون العسكري وممثلي المجتمعين الإقليمي والدولي لتوجيه السياسات الداخلية والخارجية بما يخدم مصالحهم والأدلة على ذلك لا تحصى. هذا في نفس الوقت الذي لم يبذلوا مجهودًا يذكر في تنفيذ متطلبات الثورة الأساسية والتي تتمثل باختصار في "محو آثار الثلاثين سنة من محاولة الإسلامويين تغيير ملامح المجتمع السوداني بما يخدم مصالح الجماعة وأفرادها فحسب". فهم مثلًا لم يفككوا البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للجماعة بدليل أنهم فكروا في العودة المستحيلة بعد أن رش عليهم المكون العسكري قليل من مياه الايقاظ. بل واستمر ممثلوهم المعروفون بالاسم والصفة في قمة السلطة وبعضهم متخف داخل السودان من غير أن تتمكن السلطة، التي تعرف دبة النملة السوداء في الليلة الظلماء من العثور عليهم، إلا أن أرادت ذلك! والغريب في الأمر أن هذا القصور من قبل قحت المركزية، قد أصبح اليوم أحد الأسلحة الرئيسة التي تواجههم بها قحت الاتفاق، بحيث يردون عليهم بأنكم لم تنفذوا مطالب الثورة أثناء وجودكم في السلطة، ولو أنها كلمة حق أريد بها باطل! – في رأيهم أن الحل يجب ولا يمكن أن يتم إلا من خلال مرحلتين: إنهاء الانقلاب ثم الاتفاق على واجبات مرحلة انتقالية تكون خاتمتها انتخابات حرة ونزيهة. وقد يبدو هذا الطرح وجيهًا، بل ومن الممكن الاتفاق عليه ولكن النتيجة تختلف باختلاف الوسيلة إليه. فإذا تم ذلك عن طريق التفاوض مع المكون العسكري، بتكوينه المعروف والتجارب التي تمت معه بما في ذلك الانقلاب على الحلفاء، فهل نتوقع أن يسلم الراية تمامًا دون أي نتائج ايجابية له، من مثل الحصانة من الجرائم… الخ؟! ولعل في نتائج الاتفاق معه على الوثيقة الدستورية المعيبة وما نتج عنها من عيوب ظلت تقعد بالثورة عن إنجاز مهامها حتى اليوم، لعل في ذلك درس كاف لعدم التكرار. – كذلك، فإن عيبًا رئيسًا في فترة حكم قحت المركزية هو الإبقاء على القوة الاقتصادية للنظام السابق وعلى رأسه المصارف ذات البعد الخارجي أيضًا. وقد ازداد يقيني بفداحة هذا الخطأ وأنا ارى الثورة الإيرانية الظافرة بأذن الله والمستفيدة من كل التجارب الثورية وعلى رأسها ثورة ديسمبر، أراها وهي تسرع نحو إكمال مسيرتها بالإضراب السياسي ومن ثم العصيان المدني الذي سيشل الحياة الاقتصادية تمامًا في إيران لتوفر عدة عناصر لا تتوفر حتى الآن للثورة السودانية، وهي كما أرى: وجود عديد من الأعمال خارج نطاق مؤسسات الدولة، بينما قال رئيس وزراء حكومات ما بعد الثورة أن الجيش يسيطر على أكثر من 80% من أموال الدولة. أثبت الإضراب فعاليته في عدد كبير من مؤسسات القطاع الخاص بما في ذلك محلات تجزئة صغيرة وكذلك في مؤسسات حكومية واتحادات ومؤسسات نقابية إيرانية. أعاد الانقلاب عدد من المؤسسات الخاصة والنقابات التي تم حلها بواسطة لجنة إزالة وتفكيك نظام الانقاذ، بما يزيد الطين بلة بالنسبة لإمكانية العصيان المدني. وأخيرًا فأنا لم أقصد بهذه المقارنة غير لفت نظر مركزية قحت إلى هذه الأخطاء التي أثرت في تأخير إنجازات هامة للثورة وحتى مستقبل العمل الثوري المشار إليه والمتفق عليه في مرحلتي الإضراب السياسي والعصيان المدني متمنيًا أن يسارعون إلى عملية التفكيك في حالة رجوعهم إلى السلطة كالهدف رقم واحد والذي تتبعه الأهداف الأخرى بسهولة وسلاسة. وكذلك ألفت نظر الثوار إلى هذه القضية الأساسية لنجاح الإضراب السياسي والعصيان المدني، إذ أنه بغير الإعداد الواثق لهذه المراحل فأن إعلانها قد تكون له نتائج كارثية على مستقبل العمل الثوري. الميدان