طرأ على الخطاب السياسي السوداني في الآونة الأخيرة مصلح جديد يضاف لقائمة المصطلحات المتداولة في هذا القطر المبتلى، وهو مصطلح دولة 56! فقد كنا حتى وقت قريب نسمع عن التهميش والهامش والأطراف والمركز، والغرب والبحر، وتقسيم السلطة والثروة والقبلية والجهوية والعنصرية والانفصال والوحدة، قبل ذهاب الجنوب، ولكن مع اندلاع تمرد مليشيا الجنجويد برز هذا المصطلح الذي لم نسمع به من قبل! ومن الواضح أنه مصلح من إنتاج نشطاء قحت أو تقدم لتضليل الأوباش من عرب الشتات لإقناعهم بأنهم يقاتلون من أجل قضية عادلة علاوة على سعيهم لاستئصال الفلول والكيزان من السودان بلا رجعة. بيد أن الهدف الذي تسعي إليه دوائر الشر وهدفها من هذه الحرب هو التغيير الديمغرافي الكامل بمعنى تشريد الشعب السوداني من أرضه ووطنه واستبداله بأناس يجلبون من أصقاع وفيافي أفريقيا لخدمة مصالح خاصة بتلك الدول التي تدعم التمرد في السودان. ولكن بفضل من الله خاب فألهم وطاش سهمهم وخابت آمالهم وفشلت خططهم بتلك الوقفة المشهودة للجيش السوداني، يسانده هذا الشعب الأبي الذي ظل يردد شعاره المعروف: "جيش واحد، شعب وحد". ليس هذا فحسب، بل انتظم الشعب في عملية استنفار غير مسبوقة أربكت خطط التمرد وأحيت الوطنية في نفوس الشعب السوداني في كافة أنحاء البلاد رغم أنف قحت أو تقدم وكل العملاء والمرتزقة الذين يقتاتون على خيانة الوطن كما أقرت بذلك رشا عوض بلا خجل أو مواربة! وأنا على يقين من أن عناصر المليشيا لو سألناهم عن مفهوم هذا المصطلح لما حروا تعريفاً له لأنهم أصلاً لا يعرفون ماذا حدث في عام 1956 في السودان إذ لم يكن أحد منهم موجوداً داخل الأراضي السودانية في ذلك التاريخ حين نال السودان استقلاله من ربقة الاستعمار البغيض! هؤلاء الأوباش ولد معظمهم في صحاري النيجر وتشاد وإفريقيا الوسطى وبعضهم حملته اللواري من خارج الحدود ليجد نفسه فجأة داخل دولة أسمها السودان! دولة 56 يا أيها الأوغاد المناكيد كانت دولة ذات سيادة كاملها يقودها رجال لم يعرفوا الارتزاق ولم يرهنوا إراداتهم لكفيل إقليمي أو دولي، بل عاشوا أحراراً أوفياء لوطنهم متجردين عن مطامعهم الشخصية رافعين شعار "السودان للسودانيين" ومع ذلك ساعدوا في تحرر الشعوب الإفريقية من الاستعمار الأوروبي من الجزائر شمالاً وحتى وسط إفريقيا بلا منٍ ولا أذى ووقفوا مع القضايا العربية في حرب 67 و73 وساعدوا في نهضة بعض الدول العربية التي تناصب السودان العداء الآن. دولة 56 ورثت سوداناً مستقراً ما عدا تلك الفتنة التي غرسها المستعمر بين الشمال والجنوب وسعى من خلالها للتفريق بين أبناء الوطن الواحد حتى نال مأربه. دولة56 لم تعرف الجهوية ولا النعرات العنصرية فقد كانت مناصب الخدمة المدنية والعسكرية تسند للشخص حسب الكفاءة والقدرة بعيداً عن المحاصصة فتجد الفوراوي مديراً في دنقلا والحلفاوي مفتشاً في نمولي، وأدروب قاضياً في الأبيض. كانت الخدمة المدنية مستقرة وفعالة بفضل ذلك النظام الدقيق الذي ورثته دولة 56. أما التجارة فقد كانت تقوم على الثقة والأمانة والعلاقات التجارية المتميزة وتبادل المصالح والسلع فيحمل سائق اللوري المبالغ الكبيرة من الجنينة إلى أم درمان ويسلمها لتاجر الجملة ويعود محملاً بالبضائع لا يعترض سبيله ارتكاز ولا يطلب منه أحد تسديد جباية سوى الضرائب والرسوم بموجب أورنيك 15. كما ورثت دولة 56 ذلك التعليم النوعي الذي كانت تتربع على عرشه جامعة الخرطوم وترفدها المدارس الثانوية القومية في حنتوب وخور طقت ووادي سيدنا بخيرة أبناء السودان بلا تمييز ولا عنصرية. وحتى المنظومة الحزبية، مع هيمنة الطائفية، كان من الممكن أن تشكل نواة جيدة لممارسة ديمقراطية راسخة لولا تدخلات اليسار واليمين التي أعاقت المسيرة الديمقراطية أكثر من مرة. دولة 56 كانت لها علاقات خارجية مستقرة تتمثل في موقف عدم الانحياز وعدم السماح للدول بالتدخل في الشأن الداخلي إلا في بعض حالات معدودة استطاعت من خلالها بعض دول الجوار تغيير نظام الحكم بالانقلابات العسكرية. وكانت معظم دول القارة الإفريقية تنظر إلى السودان كدولة رائدة لما كان يتمتع به زعماء السودان من حكمة في التعامل مع قضايا القارة السمراء وما يقدمه السودان من مساعدات متنوعة لتلك الدول بلا ارتزاق ولا عمالة. وكان السودان بمثابة الأب الروحي لبعض الدول العربية فساعد في نهضتها عبر التعليم والخدمة المدنية وحتى في بعض الأحيان بالخبرات العسكرية حتى شبت عن الطوق وصارت تتآمر على السودان وتسعى لتمزيقه عبر عملائها الذين رهنوا إرادتهم للأجنبي بلا وطنية ولا ذمة ولا قيم ولا أخلاق فدمروا السودان ولم ينالوا خيراً. دولة 56 يا حضرات السادة كان فيها الأدب والفن والصحافة والتواصل الثقافي مع محيطنا العربي والعالمي. فقد كان طلابنا يتوجهون إلى أرفع الجامعات في مصر وبريطانيا وأمريكا ويعودون بأرفع الدرجات العلمية ليخدموا وطنهم بإخلاص، كل حسب اختصاصه ولم يرتزقوا ولم يتآمروا مع الأجنبي ضد بلادهم وشعبهم. في دولة 56 كان الإنسان يسافر من الجنينة حتى بورتسودان لا يحمل معه إلا قليلاً من الزاد فهو مرحباً به كضيف عزيز وأخ كريم حيثما حل؛ وبذلك تمازجت أعراق السودانيين وتنوعت سحناتهم فصاروا أمة ذات طابع متميز. وما من مدينة سودانية، صغيرة كانت أو كبيرة، إلا وتجد بها تنوعاً إثنياً متفرداً يعطي كل مدينة طابعها الخاص. دولة 56 لم يعكر صفوها إلا الدخلاء والعملاء ونشطاء السياسة وبعض عناصر اليسار والبعث ممن يحاولون تطبيق نماذج حكم عفا عليها الزمن وتجاوزتها الأحداث والتحولات العالمية والإقليمية، ولكنهم من ضلالهم لا يزالون يتشبثون بها ويعاونهم الآن بعض الأبالسة الطامحين في حكم السودان بلا مقدرات ولا كفاءة؛ ولذلك اضطربت أحوال البلاد واختلط الحابل بالنابل بعد أن عاث الأوباش فساداً في الأرض بحجة التخلص من دولة 56، ولكننا نظل نقول ليتنا نعود لتلك الدولة يا حليلها! [email protected]