يبدو أن أزمة أبيي المنكوبة والمتنازع عليها بين دولتي السودان وجنوب السودان التي عادت إلى واجهة الأحداث خلال الأيام الماضية خاصة بعد إعلان الجنوب سحب قواتها منها وإصدار مجلس الأمن الدولي قرارًا يطالب الخرطوم بسحب القوات السودانية منها وفي نفس الوقت إعلان الخرطوم شروطًا مسبقة للانسحاب، ربما تحمل كثيرًا من العواقب غير المتوقعة ليس بين الطرفين فقط وإنما بين الطرفين خاصة الطرف الشمالي الذي سيجد نفسه مضطرًا في مستنقع الضغوط الداخلية من قبيلة المسيرة والنافذين للحيلولة دون الانسحاب، والضغوط الخارجية التي يقودها مجلس الأمن الذي يطالبها بخطوة مماثلة للخطوة التي اتخذتها جوبا التي هدّدت بأنها ستضطر لاحتلال أبيي مثلما احتلت هجليج إذا لم تسحب الخرطوم قواتها. هذا المأزق الذي يواجه أبيي ليس جديدًا إذ أنها ظلّت منذ توقيع اتفاقية نيفاشا عام 2005 محل خلاف وجدال ليس بسبب سكانها من دينكا نقوك والمسيرية ولا أرضها وإنما هو النفط المكتشف في أراضيها والذي شكّل البوابة لعدم الثقة بين الشريكين في السابق والحكومتين حاليًا بالخرطوموجوبا، ولكن الجديد هذه المرة هو تدخل مجلس الأمن بقوة في الأزمة في إطار خريطة الطريق التي وضعها الأفارقة لحل جميع الملفات الخلافية بين الدولتين ولذلك فقد تحولت أزمة أبيي من أزمة محلية وإقليمية إلى أزمة دولية في مواجهة الدولتين المتشاكستين. ولكن السؤال المطروح هل المجتمع الدولي يستطيع حل هذه المعضلة في ظل الشروط المسبقة من طرف في الصراع وتهديدات من طرف آخر؟ وهل هناك أصلاً جدية وإرادة محلية للتعامل مع الأزمة بعيدًا عن المزايدات والمكايدات؟ من المؤكد أن حل الأزمة لن يتم إلا في الإطار المحلي بعيدًا عن محاصصة الطرفين بحيث تكون أبيي منطقة محايدة تُدار بعزل عن الشريكين السابقين وهذا لن يتم إلا بإرادة دولية إقليمية واضحة تلزم الطرفين بالقرارات التي يقرّرها الوسطاء والتي تضمن للدينكا والمسيرية العيش المشترك مثلما كان يحدث في السابق. فالجميع يدرك أن تسييس الأزمة والقبائل بالمنطقة من الشريكين السابقين والحكومتين حاليًا هو الذي قاد إلى هذا الواقع، فالخرطوم تقاتل من أجل أبيي بالمسيرية التي اختفت الحكومة خلفها وجعلت صوتها في أعلى السقف، فالمسيرية لم تستشر في قضية التحكيم رغم أنها الطرف الأساسي في الأزمة وعندما صدرت القرارات من لاهاي رفضتها ولكن الحكومة لم تكترث بمواقفها الرافضة حينذاك والذي شكّل جرس الإنذار المبكر لما هو قادم؛ لأن المسيرية اهتموا بالأرض التي ورثوها من أجدادهم والحكومة اهتمت بالنفط فقط لا غير، وحكومة الجنوب نفسها وقعت تحت تأثير أبناء دينكا نقوك النافذين تنفيذيًا وسياسيًا وبالتالي اعتبرت أبيي خطًا أحمر لا يمكن التخلي عنها وأنها مضت أكثر من ذلك بضمها للخريطة الرسمية للدولة الوليدة والتي تضم مناطق حدودية أخرى لم تضع لها الخرطوم الاعتبار وهي قنابل موقوتة تفجرها جوبا متى ما تشاء في إطار صراعها مع الشمال. المخرج من الأزمة واضح وسهل إذا كانت هناك جدية من الطرفين، وهو قيام منطقة تآكل محايدة بإدارة محايدة لا تتبع للخرطوم ولا جوبا ولا تتبع لأي جهة إقليمية أو دولية، وأن يمكن سكانها من المسيرية والدينكا من إعادة بناء الثقة التي فقدوها ليس برغبة منهم ولكن بتدخل الساسة في الخرطوموجوبا، فأي صراع للطرفين فيها ليس من مصلحة الدينكا والمسيرية ولذلك فإن التدخل الدولي يجب أن يكون موجهًا نحو التطبيع المحلي بين القبائل المكونة لمجتمع أبيي لا التأزيم بحيث أن يكون لهذه القبائل الدور المحوري في حل الأزمة ولا يترك للساسة في العاصمتين لأن بينها أزمات متعددة ومتشعبة تجعل أبيي محل محاصصة ومزايدة. عودة أبيي للواجهة من جديد من بوابة التدويل بقرار مجلس الأمن تستوجب البحث الجاد عن السبل الكفيلة بإبعاد المنطقة عن أي مواجهة جديدة خاصة في ظل تمسك الخرطوم بشروط مسبقة للانسحاب وتهديد جوبا باجتياح المنطقة إذا لم تستجب الخرطوم للمطالب الدولية وتسحب قواتها، فالمواجهة لن تكون دينكا نقوك والمسيرية أو الجنوب والمسيرية وإنما بين الدولتين السودان وجنوب السودان وإن ما حدث بهجليج ليس ببعيد لا عوامل الحرب موجودة ووقودها تتنظر الاشتعال فقط ولكن هل المجتمع الدولي جاد في منع الحرب الشاملة والتي ربما تجرّ المنطقة بأجمعها خاصة أن أبيي ليست وحدها محور الخلاف وإنما هناك مناطق أخرى كما أن عدم الثقة بين الشمال والجنوب يهيئ للحرب في أي لحظة. إن حل أزمة أبيي امتحان واختبار لمدى جدية المجتمع الدولي تجاه أزمات السودان، فالطرفان المتشاكسان، سيجدان نفسيهما هذه المرة تحت المراقبة وتحت المحاسبة ليس من المجتمع الدولي وإنما من الأفارقة الذين هندسوا قراري مجلس الأمن الأخيرين الأول المتعلق بمنح مهلة 3 أشهر للطرفين لحل خلافاتها والثاني الذي يطالب الخرطوم بسحب قواتها من أبيي، إذن الصراع ليس بين جوباوالخرطوم من جهة ومجلس الأمن من جهة أخرى وإنما بين جوباوالخرطوم من جهة والأفارقة من جهة أخرى. لقد وضح أن الأفارقة سئموا من مراوغات الطرفين خلال المفاوضات التي يقودها الرئيس الجنوب إفريقي السابق تامبيو امبيكي ولذلك تقوى بمجلس الأمن الذي أصبحت قراراته ملزمة للطرفين وأن بين هذه القرارات الإجراءات المتعلقة بأبيي والتي تدولت أزمتها أصلاً بنشر القوات الأثيوبية فيها تحت القبعات الدولية، وأن الأفارقة قد وضعوا خارطة طريق مسبقة لحل جميع الأزمات ولكن الدولتان لم يقبلا بها ولكن الأمر قد اختلف بدخول مجلس الأمن بقوة في الأزمة دعمًا للأفارقة. فأزمة أبيي رغم أنها ليست منفصلة عن أزمات شريكي نيفاشا السابقين والحكومتين بالخرطوموجوبا حاليًا إلا أن خطورتها تكمن في أنها مرتبطة بالقبائل والأرض والطرفان يدركان ذلك جيدًا ويعملان على تزكيتها، فالمسيرية وضح أنهم لن يقبلوا بالتغيب عمدًا مرة أخرى بقضية أرضهم وأن المؤتمر الوطني الذي أدرك ذلك أصبح يزكي موقفهم بمواقف صلبة ولكنها مرهونة بمدى التنازلات التي تقدمها حكومة الجنوب في الملفات الخلافية الأخرى وبمدى الحوافز التي يقدمها المجتمع الدولي خاصة بعدما أدان لأول مرة حكومة الجنوب بقضية احتلال هجيلج ولذلك فعلى المسيرية ألا يعولوا كثيرًا على مواقف الخرطوم فهي ليست ثابتة وإنما مرحلية قد يتركهم يواجهون مصيرهم وحدهم ولذك فعليهم التمسك بخيار الإدارة المحايدة التي تجمعهم مع الدينكا نقوك. إذن أزمة أبيي من وجهة النظر المجتمع الدولي لا تنفصل عن أزمة الثقة بين الخرطوموجوبا في الملفات العديدة التي نتجت عن انفصال الجنوب، والتي يجب حلها ولكن الأزمة تكمن في أن أيًا من الطرفين يريد الحل بطريقته الخاصة بحيث يكسب المزيد ولا يخسر شيئًا، فالخرطوم التي خسرت عائدات النفط تريد إنعاش اقتصادها المتعادي ببديل عن نفط الجنوب، وتريد أيضًا حل أزمات جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان وقضية تمويل حركات دارفور ولكن جميع هذه الملفات بعيدًا عن ملف أبيي التي هي من وجهة نظرها أرض سودانية، وجوبا التي فقدت العائدات النفطية بإغلاق آبارها وفقدت أيضًا التجارة الحدودية مع الشمال تريد أبيي فقط ولكنها تتجاهل القضايا الأخرى المرتبطة بها ومنها علاقاتها بالتمرد في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق ودارفور، فأبيي بالنسبة للطرفين ورقة رابحة، الخرطوم لن تسمح بضمها للجنوب والجنوب لن يقبل بفرض إرادة الأمر الواقع كما هو حاصل الآن ولذلك فلابد من حل وأن المجتمع الدولي قد تدخل فهل يستطيع أن يفرض حلاً مقبولاً لا يقود إلى حرب جديدة. الراية