ما الذي يدعو كاتبا في خمسينيات القرن الماضي لكتابة رواية بطلها الرئيسي هو السيد المسيح؟! هذا ما فعله الروائي اليوناني نيكوس كزانتزاكيس في روايته 'الإغواء الأخير للمسيح'، حيث تستعيد هذه الرواية سيرة السيد المسيح ما قبل الرسالة السماوية، حين كان نجاراً، وتستكمل حكايته بالرسالة، والصليب، وآلامه وآماله بالخلاص للإنسانية. عندما نعرف عمق الأثر الديني لدى كازنتزاكيس نستطيع أن نفهم السبب، فلطالما كانت حياة هذا الكاتب، كما وصفها بنفسه، صراع بين الدنيا والدين، بين الجسد والروح، بين أفكار عصره وهرطقاته وبين تمثلاته وأشواقه الدينية الذاتية. لقد حاول كازنتزاكيس في هذه الرواية أن يؤنسن المسيح، وأن يصور الصراع الإنساني في داخله بين الغرائز التي تشده للدنيا والأشواق التي ترتقي به للسماء، وذلك الاحتدام الضاري بين مملكة الأرض وملكوت السماء. ورغم أن مجمل الرواية هو استعادة للقصص والحكايات الإنجيلية ولكنها تُستحضر سرداً من منظور الكاتب ورؤيته الذاتية، حيث يتبدى تصوره الخاص للدين والمسيح والإيمان والحياة منشقاً عن الخط الديني التقليدي، باحثاً عن ذلك التوازن بين الدنيا والآخرة، وعن حق الإنسان في التمتع بالحياة، والحب، والزوجة والأبناء دون أن يحيد عن طريق الحقيقة والقداسة، ويتضح هذا في الحلم الأخير للمسيح وهو مسمرٌ على الصليب، حيث يرى نفسه في الحلم وكأنه عاد من جديد ليتزوج من مريم ومرثا أختي اليعازر، وينال كل المتع التي حرم نفسه منها، ويعيش حياة بسيطة هانئة مع أبنائه، ويعلن بصريح العبارة لحوارييه أنه ابن الإنسان، وأنه بشر عادي وليس رباً كما أراد له بولس الرسول أن يكون، بل هو يستنكر على بولس هذا الإدعاء، ولكن تلامذته يستنكرون عليه تخليه عن الربوبية ليعيش حياته العادية، ويتهمونه بالخيانة والخداع لأنه جعلهم يصدقونه، ثم إذ به يصحو فجأة من حلمه ليجد نفسه لايزال مسمراً في الصليب يعاني الآلام الهائلة، مكتشفاً أن زواجه وأبنائه، وكل المتع واللذائذ التي ذاقها هي مجرد حلم، وأنه لا يزال محتفظاً بالربوبية، في عودة أرادها كازنتزاكيس متسقة مع الخط الرسمي العقائدي ولكن بعد أن زرع بذور الشك، والشقاق في أرض الحكاية المقدسة! السؤال الذي خطر ببالي وأنا أقرأ الرواية هو: إلى أي مدى يصلح الدين كموضوع للتناول الروائي؟ يبدو لي أن ما يبرر قيام كازنتزاكيس بتناول الدين روائياً، إضافة إلى كونه هاجساً مُلحاً بالنسبة له على الصعيد الشخصي، هو أن الدين لا يزال أحد الموضوعات والشواغل المؤثرة في الوجدان الإنساني، فلو كشطنا الطبقة السطحية للمجتمعات الحديثة المتمدنة لوجدنا الدين والإيمان يحتلان مساحات واسعة كاهتمامات قصوى في أعمق أعماق الشخصية، وتتجلى واضحة في الأماني والأشواق والمخاوف والرجاءات المنغرسة جذورها في التربية الدينية والتمثلات الكهنوتية، وهو ما يجعل الدين موضوعاً معاصراً باستمرار، أما من حيث مدى استجابة الدين كموضوع للبنية الروائية، فقد بدا واضحاً أن الموضوع الديني في رواية'الإغواء الأخير للمسيح' يثقل المتخيل الروائي ويشده إلى الواقع الديني، فالروائي ظل محكوماً بالسياق التاريخي، والتمثلات الدينية الراسخة للحكاية. لقد بدا السرد الروائي في هذه الرواية مشتبكاً في صراع مع السرد الديني، خاصة وأن بنية الكتاب الإنجيلي قائمة على السرد القصصي، والمتواليات الحكائية التي ترتكز على بؤرة مركزية تدور حولها الأحداث وتتجه نحو غايات ميتافيزيقية متوارية، حيث تتبدى الأحداث ظاهرة وواضحة للعيان، ولكن جذورها تظل منغرسة عميقاً في عتمة التربة الدينية النبوئية، لهذا يتبع السرد الروائي السرد الإنجليلي، يذوب في مجراه حيناً ولكنه يتقاطع معه في أحيانٍ كثيرة، محاولاً باستمرار أن يزيح الحجب عن الأبعاد الإنسانية في شخصية المسيح التي حجبتها أسطورته الدينية، حيث يتبدى الصراع البشري بين الخير والشر، وبين الأهواء والرغبات والشهوات والأشواق داخل النفس. في رواية 'الإغواء الأخير للمسيح' يتبدى المسيح أقرب للإنسان العادي، إنسان طبيعي بسيط يمكن أن يفهمه أي إنسان ويتعاطف معه ويحبه، إنه إنسان يعيش في داخله الصراع الضاري بين الخير والشر مثل كل البشر، وينوس ببين هوة الخطيئة المحفوفة بالجحيم وجنة الفضيلة الموعودة في مملكة الرب، لهذا تتبدى فضائله الشخصية كثمار لكافحه ونضاله الإنساني المضني من أجل الحب والخير والجمال، وهذا، ربما، ما أراد نيكوس كازنتزاكيس أن يؤكد عليه. كاتب من عُمان القدس العربي