شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالفيديو.. بشريات عودة الحياة لطبيعتها في أم درمان.. افتتاح مسجد جديد بأحد أحياء أم در العريقة والمئات من المواطنين يصلون فيه صلاة الجمعة    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح: بدأت قواتكم المشتركة الباسلة لحركات الكفاح المسلح بجانب القوات المسلحة معركة حاسمة لتحرير مصفاة الجيلي    مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وزير الصحة: فرق التحصين استطاعت ايصال ادوية لدارفور تكفى لشهرين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد الخالق.. «المحجوب» «2/2»!
نشر في الراكوبة يوم 05 - 04 - 2013


[email protected]
يا ويحَ روحي من روحي فوا أسفي عليَّ منّي فإنّي أصل بلوائي – الحلاج
الحج عرفة؛ وعرفة من مناسك الحج في الوقوف بها، والذي فيه لا رفث ولا فسوق ولا جدال!، وحين يقضوا مناسكهم يذكرون الله كثيراً، رغم أن الواقفون هنا مجادلون بامتياز، بل ومُقدرهٌم من الكتب مشغول بالجدل والمادة، وحين أنه لم يلفح خد ثقافتنا صقيع تلك البلاد إلا فاتحين، فإن لا حق في الوقوف عند ضريح ملتصق بمبنى الكرملين في الميدان الأحمر (حمرا وشرارة!)، وقوف بإجلال أمام (مسجى) محنط بمهارة فرعونية وموضوع في صندوق زجاجي لم ينل شرفه؛ يوم أن نجى الله فرعون موسى ببدنه ليكون لمن خلفه آية.. وعنده تقام الصلوات وتقرأ الأوراد (من كتاب أحمر سمين) على روح الفقيد، الذي عمر الأرض وذهب، الذي (كمل الفهم) ورحل، والذي شد خياشيم الجوعى ولم يطعمهم إلا قليلا، (رجل من زمن الحرب) قصير القامة، عميق العينين، ساه وطرفو من طبعو نعسان، وأربعتهم يقفون في إجلال أبي جهل منافحة عن حق هُبل في التقرب والصلاة إليه، يفعلونها ليتقربون إلى (أبو دقن) زلفى دون رجاء في حسن مآب، وقفوا والحزب بأعينهم فالفقيد رجل عظيم، شديد الأثر في مساعدة العقل الاجتماعي ليتطهر من القهر في الأرزاق والتقتير في المدد، يقفون كوقوف أبي سفيان في حربه والمصطفى صلى الله عليه وسلم، أن أعل هبل رغم أن الله أعلا وأجل، والرجل أوسطهم سميح الزي، رقيق الوجه مريح الطلعة صفي جداً كأبناء الآلهة حينما يندسون في لحم بشري طمع في حياتين مادية وروحية، والمعرفة التي ينالها بالوقوف عند الضريح؛ ضريح فلاديمير ألييتش أوليانوف الشهير في قهوة النشاط الماركسي ب(لينين) (1807- 1924م) قائد الثورة البلشفية 1917م، أيستحق الوقوف عنده؟، المحنط وقبره محجة لكل (المؤمنين) بماذا؟.. أليست قبور الصالحين محجة؟ أليست مداناة الإسبات عند من يريد محجة؟ والجسد لا يتكلم في حال الدراويش لكنه رفيع في تساميه نظيم في معانيه إذا تخطى الحدود واكتشف بعد مرور السنين، والوثنية في تقديرها تتشابه وتتشابك، لكن هناك من لا يريد أن يسمع، وكذلك في أدب المادية الجدلية تعد هذه الوقفة سقطة مثالية تقدس الجسد وتعبد الروح، وكأنك يا ماركس لا غزيت ولا شفت الواقفون بانكسار مصنوع من ضغط الحاجة إلى بديل ولو في مدافن سيبيريا الجليدية..! أربعتهم مكرهون على هذه الوقفة، فبأي طريقة ستقدم فروض الولاء إذا لم تعرج على كراسنيا بلوشتشاد، (الساحة الحمراء)، وأبطال الجدل يقفون وينشدون في تبتل ينادونه وقوفاً (قبر الحبيب فلم يرد جوابي) ويجيبهم (وكيف لي بجوابكم وأنا رهين جنادل وتراب)..!
أتكون مادياً وعرفانياً في الوقت ذاته؟ أتؤمن بالديالكتيك وتعظم وقفات الأطلال عند من فقدت في طول غياب، أهي الغربة عن الواقع؟ أم كان الحلاج مصحاً حين قال: إِن كنتَ بالغيب عن عينيَّ مُحْتَجِباً.. ذلك أن العقل السياسي السوداني يشكو من غربة بلا شوق، يستلف هذا العقل رفضه من لا يقينه بدوره هنا، وليس هناك، فالمجاعة الفكرية التي يعانيها المثقف السوداني لا يسدها جوع هو مشتول في رقعة بعيدة يشتاقها كروح بن سينا التي حلت في أرض لا تطعم أحداً من مسامها وريقها شبعاً وبطر، عقل مهاجر إلى البعيد؛ البعيد الغريب، عقل لا يجد في سودانيته ما يكفيه فينزل عند رغائب تنقصها الفطنة وتتملى بالفتنة في أعمق حضور، كم هي أفكار متولدة من رحم عاقر هنا، منتج هناك، أفكار مغمورة عند أمية تبلغ نسبتها وسط المتعلمين نسباً مئوية تخجل عن الافصاح، فيخرجون علينا بالجدل والمادية والبرجوازية والتطهير وإيقاف القوى التقليدية عن ممارسة التهجين الإيجابي، هم فقط مشغولون بالجدل، والجدل لا ينتج علماً هو يدافع عن نفسه في ضعف، لا سبيل لبرهان مبين، أو أصل ثابت، عافوا طعام آبائهم واكتفوا بفتات الحداثة متقطعة الخطى، غريب أمر هذا العقل، العقل (المحجوب) عن رؤية ذاته وسط تراكم المعرفة الاجتماعية، ترى أيفهم عمال السكك الحديدية المادية التاريخية التي من نتاجاتها قطع الأوردة الفكرية لقياس درجات التطور التاريخي للمجتمع السوداني؟ أيفهم عمال الموانئ والغبش التعاني أن (البناء الفوقي) للمجتمع ناتج عن (البناء التحتي)؟ وأن أخلاقنا تتأثر بعلاقاتنا الاقتصادية؟ في بلد قائم على اقتصاد ريعي يحكم وظائف ماديتنا السودانية، فالشيخ في الخلوة ينقل معارف سابقيه فيسم تلاميذه ليصبحوا ممثلين لثقافة بعينها، ألسنا محكومون بلعبة التاريخ والذي فيه محدد الغنيمة هو آلة قياس النشاط الاقتصادي، وهو (الخراج) و(الريع)، والذي يؤثر في المسار السياسي للعقل السوداني، ليس فقط في طريقة جمع هذا الخراج بل في كيفية التصرف فيه، الفعل الذي يجعل من (العطايا) منتجة للعقلية (الريعية)، لذا فإن كل إنسان يشترك وغيره في تحديد أنماط العيش وفلسفة الحياة، و(المحجوبون) المسيطر عليهم من قبل أفكار وافدة، وإذا كانوا يبحثون عن مسارب ضوء للعقلانية لماذا لم يعودوا إلى حضن ثقافتهم ويجدوا أن فرق عقلانية ثورية ومناضلة وقفت ضد الظلم الاجتماعي وعرفوا كيف يقيمون الحجة من داخل حقل الصراع، لا أن يستلفوا نتائج الصراع من فضاءات أخرى!.
فقد خرجت علينا جماعات سياسية تتبنى أطروحات (أجنبية)، وأجنبيتها هنا لا نقصد بها أدواتها لمعالجة أوضاع الداخل السوداني، ولكنها غربة عن ممارسة التحليل واعتماد المراقبة والمشاهدة من داخل الواقع الاجتماعي لنا، وهؤلاء (محجوبون) عن رؤية المسيرة، المسيرات المتحركة صوب نجاحات منتظرة، أهي قلة صبر المفكر السوداني على التغيير؟، أهو ضعف حاسة النقد الذي يسعى لإثبات التهافت ولا يهمه فقط كشف العيوب؟، فهذه الجماعات لم تبصر سوى مشروعيتها السياسية، ولم تنل من الاعتدال في الطرح سؤال قوامة اللغة، واستقامة المعاني، وأدواتهم كانت بلاغية ومتشدقة بالغريب الغريب من المعرفة، لكن نواياهم كانت صادقة وأحلامهم كانت سعيدة لكنها أحلام تنقصها اليقظة، اليقظة إلى وجود لاعبين آخرين، يمكن تمرير الكرة إليهم فيهدفون، وهذا التشقق في المصادر يعود إلى الفردية المطلقة التي كان يمتاز بها القادة في هذه الجماعات، وأمرهم عجب، ينادون بالديمقراطية الاجتماعية ويسيطرون على مريديهم بلغة الإشارة!، يعنون مشاريعهم بالتغيير الاجتماعي الإيجابي ويرفضون الامتثال لحجج زبائهم!
وهؤلاء (المحجوبون) يشتركون في إثم تلويث مناخنا الفكري والسياسي، ينتجون أطعمتهم وينسون الملح، يفسرون أحلام الغلابة بحسب آخر ما تناولوه من كتب ومفردات، وآخر ما استمعوا إليه من خطب، ولكن لا غبار على تبني جماعة ما ثقافة حزبية، ولكن المزعج في الأمر أن تتحول الوسائل إلى غايات، هذا حينما يتجمع الخلق خلف قيادة سمها ما شئت وصفها بأي أيدلوجية توصلت إليها بعد طويل نظر، وهنا يصبح التحزب تخندق، والسياسة غاية لا وسيلة، والخطب الموجهة للناس استغفال وحيل، والمكاسب النيابية سوق أسود، ما جعل التماسنا للحق في غير مكانه. أمن غربة أشد؟
سنة 1968م.. يا أبوي السيد علي مات!، الأب بدلاً عن أن يقرأ الفاتحة على روح الفقيد لطمه بقوة الى أن أوقعه أرضاً، وقال له: يا ولد يا قليل الأدب «هو القال!» ما تقول مات قول «احتجب»!..
تعاقب عليه ثلاثة «قيادة الحزب الشيوعي» عبد الوهاب زين العابدين 1946-1947 ، عوض عبد الرازق 1947 - 1949 ثم عبد الخالق محجوب 1949 - 1971م، وفي غمضة عين أعدم سكرتير الحزب الشيوعي السوداني، عبد الخالق محجوب «1927- 1971م»، المولود في أم درمان، حي السيد مكي، والذي بدأت رحلته في الثالث والعشرين من ديسمبر عام ميلاده، وتوفي في الثامن والعشرين من يوليو عام اعدامه، ولأن كثيرين خاضوا باسهاب في تفاصيل حياته ودقائق موته على المقصلة في سجن كوبر سيء السمعة، وانقسم هؤلاء بين ممجد، ومنكر، ومستهام شديد الحب للرجل مقدساً لسره، بكاه ناعوه وسموه عريس الحمى «المجرتق بالرصاص والمحنن بالدما» على قولة «شاعر الشعب» محجوب شريف، وأيضاً جاء آخرون بروايات مختلقة لأدواره السياسية، فمنهم من قال بمظلوميته «حسيناً» لم يقتله اليزيد! وجماعة مؤرقة شدت أحزمة معارفها لتبرئه من تهم كان يحلق فوق سماواتها ولا يقترب خوف الدنية في المغنم، والرجل فيما ينقله آخرون يبقى لدى البعض موجوداً بالفكرة بعد رحيل الجسد، وقد حكى لي والدي أن جدي يرحمه الله وقد كان خليفة في الختمية وممثلاً للسيد علي الميرغني في قريتنا الصغيرة شمالي السودان، أنه وبعد وفاة السيد، جاء لجدي وقال له: يا أبوي السيد علي مات، ولأنه كان يتوقع رد فعل آخر، على الأقل أن يقرأ الفاتحة على روح الفقيد الشهيد الشديد التأثير الا أنه بدلاً عن ذلك لطمه بقوة الى أن أوقعه أرضاً، وقال له: يا ولد يا قليل الأدب «هو القال!» ما تقول مات قول «احتجب»!!.. فرد عليه أبي بالقول وهو «مغيوظ» احتجب شنو.! شمس هو؟!
وعلينا تخليص الرجل من تبعات موتاته المتعددة، جسد فوق جسد، وروح تطارد المريدين في شغب، ذلك أن نعاته المجحفين في حبه، أصابوا تاريخ الرجل بكثير من الثنائية المغيبة للحقائق، فمن عيوب الثنائية أنها تصنع الجدل في دفاع كل طرف عن حجته أمام الآخر، المجادل لا يريد شيئا سوى أن يترك في حاله وألا يخدش وجه ايمانه بالسؤال، فالسؤال غير مرحب به لدى المحتجبين بأوهامهم وآلامهم، يقول: مات الرجل شهيداً! الآخر مات الرجل «منحوراً».. دفع الرجل حياته ثمناً لخطيئته، لأجل دماء الضباط الذين ماتوا في تدابير حركته فاستحق!! وحتى الآن لم يستقر العقل التاريخي على وصف مريح لنهاية الرجل! فآخرون ذاهبون وقادمون، سيظلون مُضرون للصحة النقدية.. ومؤذون حد الجناية لذائقة الموت!.
وعلينا أن نطرح سؤال الحياة أكثر مراراً أكثر من تبجيل الموت واجلال اللحظة، فالنهاية المحزنة تسقم الأرواح وتجعلها هائمة وتكتفي بالتخفي، وعلى الباحثين أن يعيدوا قراءة لحظات في حياة الرجل أولها موقفه من حل الحزب الشيوعي في واقعة المعهد الشهيرة، حينما خرج أحدهم يؤذي مشاعرنا الاسلامية، فوقع في قراءة خاطئة لواقعة تاريخية نزل فيها قرآن كريم ليصححها، لكنه صم عن ذلك وانفصم!، وفكرة القيادة عند ادارة للأزمة وهذه اللحظة تحرك «المحجوب» بخفة ذكية وسط أمواج عاتية صادرت دور حزبه ومنعت جماعته السير حاسري الرؤوس، ولو من كلمة في هذه النقطة، فعبد الخالق كان شجاعاً بما يكفي ليحافظ على تماسك جماعته، لكن! هل كان الرجل شيخاً لطائفة من المؤرقة قلوبهم! يجتمعون عنده لتحقيق البركة من فم الحداثة العطشان في أرض السودان؟ أم هو متردد في اعلان خصوماته مع من يخافهم ويعرف الى أي حد أنهم يحققون له موته في كل لحظة؛ موت جديد لأكفان مهترئة؟ أم أن الرجل يملك بصيرة امرأة أيوب حين عافت احتياجها واكتفت بالمراقبة «يا غرق يا جيت حازما!».. وثانيها فكرة تصديه لبناء حزب شيوعي سوداني، بعيداً عن مرجعيات كونية، سوفييتية وصينية، فعبد الخالق «المتسودن» بحججه، رأى في بضاعته هنا ما يكفيه.. واللحظة الثالثة مقرونة بما تلاها «اكتوبر ومايو» ف«ثورة» أكتوبر تحت قيادته هل حققت شيئاً من ادعاءاته المنجزة تحت حكم عبود، وهذه قصة طويلة حول دخول الحزب الى جسد النظام من بوابة رأى أنها تحقق له مطالبه النضالية، ونقرأ في مجموعة «مجموعة وثائق الحزب الشيوعي السوداني 1961- 1969 - 1999» والتي قام بتحريرها رول ماير ومحمد عبد الحميد، والذي نشره المعهد الدولي للتاريخ الاجتماعي «امستردام - هولندا»: «.. لم يتمكن الحزب الشيوعي من الاستفادة من موقعه الجيد خلال الفترة الديمقراطية التي امتدت من 1964 الى 1969م، في الانتخابات التي أجريت في مايو 1965 أحرز الحزب أحد عشر مقعداً برلمانياً من بينها مقعد واحد لأول امرأة تنتخب بالبرلمان في الشرق الاوسط وهي السيدة فاطمة أحمد ابراهيم عضو اللجنة المركزية للحزب..».
ويأتي التقرير ليقول ان الحزب «جناح عبد الخالق» لم يكن يرغب في تكتيك الانقلاب وذلك بعد حله، وهذه مسألة فيها نظر ويسمى تلك الفترة بالأكثر اضطراباً في خلايا الحزب الشيوعي السوداني، ولم أفهم ما طبيعة هذا الاضطراب، يقول التقرير: «..دشن الانقلاب العسكري الذي نفذه الضباط الأحرار في مايو 1969 الفترة الأكثر اضطراباً في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني، فقد أدى تباين الأراء في الموقف من الانقلاب الى انقسام حاد للآراء داخل الحزب حيث أيد بعض قادة الحزب "حركة الجيش الثورية" معولين على تقدميتها ومعاداتها للطائفية. وتم تعيين عدد من رموز هذه المجموعة كوزراء في حكومة الانقلاب وساندت هذه المجموعة دعوة النميري بأن يحل الحزب نفسه أسوة بتجربة الشيوعيين في الجزائر ومصر والانخراط في الاتحاد الاشتراكي السوداني الذي أسسته الحكومة... أما التيار الآخر الذي قاده الأمين «يقصد السكرتير» العام للحزب عبد الخالق محجوب فقد تمسك «مبدئياً» بتحفظه على الانقلابات العسكرية ورفض فكرة حل الحزب «ودعا» الى مواصلة السعي لبناء «جبهة وطنية ديمقراطية يشارك فيها الحزب محتفظاً باستقلاليته..» والأقواس من عندي...
و«..بتصاعد حدة التوتر بين الحزب والسلطة قام الرئيس النميري «بطرد» الوزراء الشوعيين من الوزارة في 16 نوفمبر 1970 وفي فبراير 1971 أعلن النميري عن عزمة على «تحطيم» الحزب الشيوعي واتبع اعلانه بحل تنظيمات الطلاب والشباب والنساء التي يسيطر عليها الشيوعيون..».
ويواصل التقرير: «تحسباً» للهجمة القمعية على الحزب نفذ الضباط الشيوعيون انقلاباً عسكرياً «مضاداً» - لمن؟ - في 19 يوليو 1971م واعتقلوا النميري، وأعلنوا «الشيوعيون» السودان جمهورية ديمقراطية «؟؟؟»، الا أن عدم اكتمال التحضير الجيد، والدور المصري الليبي المضاد «والدور والسند العراقي أين موقعه؟!» أديا مجتمعين الى فشل الانقلاب، واعتقل قادة الحزب وأعدم منهم عبد الخالق محجوب، جوزيف قرنق والشفيع أحمد الشيخ والضباط الشيوعيين الذين نفذوا الانقلاب. وعلى أية حال ليس ثمة دليل حتى الآن يؤكد أن هيئات الحزب اتخذت قراراً بتنفيذ الانقلاب».
هذا التقرير يحتاج الى طبيب ليتفرس ملياً في دقات القلب، هكذا ودون أية نية نقدية يقدم الصورة مبتورة ومنحولة، تقدم الصورة دون دماء ودون ضحايا، لا قصر ضيافة ولا يحزنون!. وقد يكون هذا التقرير ومن لغته «دعا» من دعا؟ وأين؟ ولماذا كانت هذه الدعوة خجولة!، طبعاً كتب الحزب موقفه من اكتوبر في كتاب «الماركسية وقضايا الثورة السودانية» وغيرها من كتب، لكن السؤال لمن كان يكتب عبد الخالق محجوب؟ هل كان يعلم الى أي مدى أصابته العزلة وسط قيادات الحزب؟ أم هو استدبار باكر لمحاججة المستقبل حينما يمتطي أمثالنا سيرتهم بشيء من الأسئلة اللاحقة؟ وهل كان عبد الخالق عاجزا عن بسط قوامته الفكرية على أنداده فاختار جيلاً جديداً يحمله أمانته المعرفية، ويظل جيلاً معترفاً بأستاذيته راحلاً عنهم في البعيد؟ بالطبع هذه أسئلة خائبة بسبب من بداهة الرد عليها، فبعد المسافة الحضارية بين جيل الراحل عبد الخالق وجيلنا يجعلنا نمارس معايرة قد يكون فيها شيء من التعميم الأيديولوجي، فالرجل مات وفاء أفكاره، هل هذا صحيح؟ أم أنه اختار الاختباء الى أن تم القبض عليه بوشاية داخلية وخارجية، ثم هل لعب سورج وأحمد سليمان المحامي دور أبي رغال؟ دليل أبرهة الحبشي حينما قرر هدم الكعبة! أبي رغال وكان رجلاً من ثقيف ومقامه مرجوم حتى اليوم، وكذلك سيرة ناحريه..!
عبد الخالق محجوب، أو ما أطلقنا عليه «المحجوب» كان محجوباً عن رؤية موقعه وسط أمة تتحرك وفق تمائم طائفية ووسط معارف صوفية، هذه أمة يصعب عليها النظر عميقاً الى وجود أجسام جديدة، أفكار مغتربة، رغم محاولات السودنة التي قعدها الحزب بقيادة عبد الخالق، فلا وجود في بلادنا لمشروع مجتمعي يقع عليه التوافق والاجماع بين القوى الاجتماعية والسياسية والثقافية كافة على اختلافٍ بينها في المنابت والمشارب والأفكار والمصالح والبرامج، وفي ذلك لغة خطاب الشيوعيين في وصفهم «الرجعية» لبقية القوى الوطنية، ويكون الاختلاف بينها حينه وازعاً للمنافسة المدنية الحضارية لتحقيق ذلك المشروع أو لصناعة صيغ منه وصور أفضل، ويكون التنافس على السلطة حالئِذٍ تنافساً مشروعاً وبعيداً تماماً عن منطق الاقصاء والالغاء بعده عن منطقة الهواجس والمخاوف في النفس.
يجسد عبد الخالق محجوب في دفتر تاريخنا السياسي شخصية «ماكرة» شديدة الحذر، متدثرة برقة وجنوح مقموع، يمارس الدخول والخروج بخفة شديدة الحساسية، السياسة لديه موقف شخصي دون مخاشنة، انه كمن ينتظر هطول الأمطار ويحتفظ بالسماد محقوناً في أوردته هو وحده، مارس عبد الخالق محجوب سياسة أصيلة من زاوية تمسكها بالحق في الاعتراض وفي الوقت ذاته المشاركة، ولم نفهم اذا كان قد رفض انقلاب مايو 1969م، فلماذا شكل حضوراً في طرقاته؟ واذا كان وصف انقلاب النميري بصعود البرجوازية الصغيرة، وتماشى مع مزاحمة بعض قيادات حزبه في الدخول عند بوابات التوزير فلماذا لم يعترف بأنهم خرجوا على مبادئهم واستعذبوا عسل الثورة دون ثمن؟ يقول ان اللجنة المركزية في الحزب لم توافق على الانقلاب! وفي الوقت نفسه تسانده؟ يكتب ورقة بأسماء المرشحين ليصبحوا وزراء في حركة 19 يوليو وفي الوقت ذاته لم تقرر اللجنة المركزية انقلاب يوليو؟ ان حذر الراحل عبد الخالق يعود الى طبيعة الماركسية التي سودنها، فتبنيه لأدواتها في تحليل الواقع الاجتماعي والسياسي «حجبه» عن رؤية كيف تداخل الأداة رحم المعرفة وتنشط بطاقة زائدة عن حاجة التغيير الاجتماعي.. وهذا مقال فقط وليس دراسة، هذه أفكار وليست أحكاماً.. ان اعدام سكرتير الحزب الشيوعي السوداني دشن للعنف السياسي حضور مقيم..!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.