زار وفد مجلس الأمن الدولي السودان، جنوبه وغربه والعاصمة الخرطوم، وكأنَّ السودان أصبح اليوم أخطر قضية أمنية في السياسة الدولية. وقد استقبل الجنوبيون الوفد بحفاوة بالغة، رافعين لافتاتٍ تُطالب بالانفصال، بل أكثر من ذلك، طالب رئيس حكومة الجنوب مجلس الأمن بنشر قوات دولية على الحدود بين الجنوب والشمال، مما قُوبل من الحكومة المركزية في الخرطوم بالاستنكار والاستهجان. أما في دارفور فقد كان الاستقبال لهذا الوفد فاتراً، بل غاضباً, حيث خرجت مظاهرات صاخبة ضد مجلس الأمن وآلياته، وعلى رأسها المحكمة الجنائية الدولية، مؤكدةً الوقوف مع الرئيس عمر البشير، والسلام في دارفور. وقد عرف والي شمال دارفور بصرامته مع الوفود الأجنبية التي تزور الإقليم، فعندما زار كولن باول وزير الخارجية الأمريكي الأسبق دارفور أفرد خمس دقائق لمقابلة الوالي، وعند الاستقبال في المطار وقف «كبر» أمام «باول»، وبعد التحية قال له: «إنني لا أستطيع مقابلتك»، فاندهش «باول» لهذا الكلام الذي لم يكن يتوقعه، فرد «كبر» إنك تريد أن تمنحني خمس دقائق، وأنا أقول إنها انتهت، فاعتذر باول له ووقف معه ساعات طويلة قدَّم فيها كبر تنويراً عن الأوضاع في الإقليم. سر الاهتمام بدارفور البروفسور «ستيفن كروبلن» الأستاذ المحاضر بجامعة «كولون» الألمانية، أوضح دور الغرب والولاياتالمتحدة في صناعة وتأجيج مشكلة دارفور لتحقيق مصالح خاصة على حساب أمن واستقرار الشعوب الفقيرة. قال «كروبلن» إن «دول أوروبا الغربية وأمريكا تعلم أن ما يجري في دارفور ليس أطماعاً سياسية داخلية تتعلق بموارد الإقليم، بل هي أزمة مفتعلة يمارس الإعلام الغربي فيها دوراً محوريّاً ومؤثراً في تشكيل الرأي العام العالمي, حيث أصبح الإقليم مختطفاً، وما يجري في دارفور حملة عنصرية كبرى قام بوضعها اليمين المتشدد، وأدخل تحتها التهميش والإبادة الجماعية». وأشار البروفيسور الألماني إلى أن الغرب منذ زمن بعيد يستهدف إفريقيا، ومن قبل سحق القارة السمراء كلها، واسترق سكانها ومارس التهجير ليقوم بخدمته، كما مارسوا الإبادة للتخلص منهم، فدخلت إفريقيا منذ ذلك الحين في رحلة الألم والعذاب والاحتراب والبؤس والشقاء. والحقيقة أنهم يستهدفون دارفور الآن لكي يتخلصوا من هذا الوطن شبه القارة، الذي يُشكِّل مدخلاً وبوابةً للعروبة والإسلام إلى إفريقيا، وهم يعلمون أنهم لو تركوا السودان وشأنه فإنه بخيراته وثرواته الظاهرة والباطنة ووحدته شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً يُشكِّل مشروع دولة كبرى تنافس الدول الكبرى في القوة المادية، فضلاً عن القيم الإنسانية المتمثلة في تعاليم الدين الحنيف الزاحف ذاتيّاً دون دفعٍ بآليات شبيهة بآليات التنصير. وخوفاً من أن يستثمر السودان إمكاناته في المضي قدماً نحو بناء دولة مستقلة في قرارها، معتمدةً على نفسها في الغذاء والكساء، ويصعب ترويضها لصالحهم كبقية الدول التي تحت طاعتهم، فقد صنعوا ما صنعوا في دارفور والجنوب. ويخشى الغرب دارفور, لأن هذه الولاية في بدايات القرن الماضي كانت عصيّةً على الاستعمار البريطاني, حيث قاوم القائد المسلم السلطان «علي دينار» المستعمر البريطاني مدة ستة عشر عاماً، معلناً ولاءه التام للخليفة العثماني، بل كان حليفاً لألمانيا مع تركيا ضد الحلفاء في الحرب العالمية الأولى. منذ ذلك التاريخ، استحوذت ولاية دارفور على اهتمام الغربيين، وازداد هذا الاهتمام بعد أن صارت ألمانيا جزءاً من التحالف الغربي الأمريكي لإعادة استعمار الشعوب المسلمة والإفريقية بشتى الوسائل، وانقلب التحالف القديم إلى ضررٍ كبير، يلحق بدارفور، فقد أصبحت ألمانيا ملجأ لقادة حركات دارفور, حيث يقيم «أحمد إبراهيم دريج» هناك منذ أن تزوّج ألمانية، وكذلك «د. شريف حرير»، «د. علي الحاج» الرجل الثاني في المؤتمر الشعبي، وكثيرون غيرهم، وهؤلاء يقيمون في ضيافة الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية، وتمثل دارفور بالنسبة الى هؤلاء المتنعمين بهذه الضيافة آخر اهتماماتهم! واتفاقية «نيفاشا» التي كلها ألغام قابلة للانفجار في أي لحظة، تم وضعها في «هايلدبرغ» بألمانيا بمباركة ومشاركة مراكز الدراسات الاستراتيجية في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وأوكلت مهمة الإشراف ومتابعة التنفيذ لأمريكا قائدة العالم الحديث. مفاوضات واتفاقات حركات دارفور ليست موحدة كالحركة الشعبية، وهي مفتّتة ومنشطرة إلى شظايا، وها هي حركة «مناوي» كبير مساعدي الرئيس السابق الذي وقَّع اتفاقية «أبوجا» كأكبر حركة مسلحة في دارفور، يسافر قادتها إلى أوروبا وأمريكا في هجرة نهائية تم الترتيب لها مسبقاً، بينما «أركو مناوي» رئيس الحركة معتكف في الجنوب، ويزور أوغندا دائماً بعد أن فقد كل شيء. في هذه الأثناء، بدأت مفاوضات دارفور بين تجمّع الحركات المسلحة بقيادة «د. التيجاني سيسي» ووفد الحكومة على مستوى اللجان المختلفة، وتقول التقارير: إن معظم القضايا قد تم الاتفاق عليها ما عدا مسألة الإقليم الواحد التي تعارضها بعض الحركات، وكذلك الخلاف حول كيفية انسياب أموال التنمية عبر «بنك تنمية دارفور»، وهل تأتي هذه الأموال عن طريق وزارة المالية المركزية أم مباشرة على الإقليم؟ وتقول المصادر: إن بقية البنود قد تم الاتفاق عليها على مستوى الملفات الخمسة، وتم إعداد الوثيقة للتوقيع النهائي قبل نهاية الشهر الجاري. والأسئلة التي يطرحها المهتمون بشأن الإقليم: ما الفرق بين الاتفاق القادم واتفاقية «أبوجا»؟ وما الضمانات التي تجعل اتفاقية «الدوحة» أفضل من اتفاقية «أبوجا»؟ وهل تستطيع الاتفاقية الجديدة إحراز تقدم ملحوظ في مجالات الأمن والتنمية بدارفور؟ تقرير: محمد حسن طنون