الخبر هذه الأيام هو ما يحدث في جنوب السودان، الذي بات يزاحم الأحداث اللبنانية والعراقية والفلسطينية، القراءات لهذا الحدث فيها اجتهادات وتحليلات شتى، الملف لم يعد تحت الطاولة، المهم في هذه القراءات هو النظرة لمرحلة ما بعد الاستفتاء والتفكيك. بخلاف ما أثير حول الدورين الأميركي والإسرائيلي المرتقبين في هذه الدولة الافريقية الجديدة والمناغاة من الطرف الجنوبي والترحيب بإقامة سفارة لإسرائيل في جوبا، تبقى الحديقة الخلفية للجنوب هي الأكثر تأثيراً في رسم مستقبل العلاقات السياسية والاقتصادية ونعني بهما دولتي كينيا وأوغندا والملتفتين على الحدود إلى جانب زائير وأفريقيا الوسطى وأثيوبيا. حلمي شعراوي، الخبير المصري بالشأن الأفريقي ذهب إلى أبعد مما يقال عن أزمة حدود قادمة بين الشمال والجنوب، عندما اعتبر أن تأثير كينيا بكونها منفذ جنوب السودان الأساسي وكذلك أوغندا، هما المحور الذي سيبنى عليه مستقبل هذه الدولة الوليدة، التي ستنضم إلى مجموعة قوى ذات شأن، سواء في التحالف الجديد في موضوع تقاسم مياه نهر النيل، أو لأن هاتين الدولتين «ضامنتان» للانفصال كمرجعية يعتمد عليهما «الجنوب». مقومات الدولة وفي اتجاه مماثل، يستنتج الأكاديمي الموريتاني د. السيد ولد أباه في التعقيب، الذي شارك فيه بندوة صحيفة الاتحاد الظبيانية أن أغلب بلدان أفريقيا خرجت من أزماتها الداخلية بعد مراحل من الصراعات والانقسامات وتحولت إلى ديموقراطيات مستقرة، وأصبحت في وضع مغاير لما كان سائداً في الثمانينات والتسعينات وأن العرب هم الطرف الغائب في الخرائط الاستراتيجية للقارة السمراء، ولهذا يدعو إلى توسيع دوائر الجوار الجغرافي العربي - الأفريقي والعمل على نموذج «الفرنكوفونية». مقومات إقامة الدولة تحتاج جهودا وسنوات طويلة بسبب انعدام الكفاءات والخبرات في منطقة لم يكن فيها غير الحروب والقتال وعمليات التهجير، لذلك يعول الجنوبيون على المساعدات والدور الأميركي المنتظر الذي سيكون باستطاعته إنقاذ الوضع وجعلها دولة قابلة للحياة، من خلال تدريب الجيش وتقديم المنح المالية والمساهمة في إنشاء البنى التحتية وعندما يتجه الجنوبيون نحو الداخل ويقتربون أكثر من مشاكلهم واحتياجاتهم فربما يكتشفون حجم الكارثة التي هم فيها، فالانطلاقة ستكون من الصفر تقريباً، والنزاعات بين القيادات والقبائل قد تعصف بالاستقرار الموعود بعد أن يتخلصوا من كابوس الشمال واضطهادهم المتمادي عبر أكثر من خمسين سنة! العلاقة بين الجنوب وكل من كينيا وأوغندا تمتد بجذورها إلى الجوانب القبلية والثقافية ومسألة اللاجئين. فالجنوبيون يشعرون بأنهم مدينون لهاتين الجارتين، نظراً لاحتوائهما آلافاً من اللاجئين، الذين اضطروا الى الهجرة، بسبب النزاعات العسكرية، وتواصلوا مع البيئة الأوغندية والكينية، بالمعيشة والحياة، وهو ما عزز الروابط القبلية، فهناك عدد من القبائل الجنوبية لها امتدادات في تلك المجتمعات وطوال فترة الحرب الأهلية في الجنوب تحولت مناطق شاسعة إلى معسكرات أشرفت عليها حكومات الدولتين الأفريقيتين وأمدتهما بالسلاح والمال. فقبيلة الرئيس الأسبق لأوغندا، عيدي أمين، يقطن نصفها - تقريباً - في الجنوب، وهي قبيلة «كاكوا». أما في كينيا، فيرى فيها الجنوبيون منفذهم الأقرب إلى البحر، بدلاً من الذهاب إلى بورسودان.. فميناء بومباسي، سيكون الممر البحري المفضل، وعليه ستقام علاقات اقتصادية وتبادل تجاري بينهما، يقوي العلاقات ويسهم بربط الجنوب مع تلك الدولة بعجلة اقتصادية تبنى عليها تحالفات سياسية من شأنها تغيير موازين قوى في الصراعات القائمة على مستوى القارة، أو في العلاقات الدولية مع القوى العظمى. قد يكون النفط عامل توحيد بين الجنوب والشمال نظرا لوجود بنى تحتية جاهزة، من تمديدات الأنابيب واقامة نقاط التجميع والمحطات، ولذلك سيكون هناك حرص من الطرفين للحفاظ على هذه الموارد وتقاسم منافعه، من هنا يستبعد المراقبون أن يتعرض النفط الى التخريب أو شيء من هذا القبيل. وان كان أحد المكامن الاستراتيجية التي ستضع الجنوب والشمال في دائرة الاستقطاب الأميركي والصيني بشكل خاص ومباشر نظرا للاغراءات الدفينة في باطن الأرض. أكثر الموضوعات حساسية أكثر الموضوعات حساسية على الجانب المصري من قبل الجنوب قضية المياه التي سيكون له فيها الكلمة الفصل خاصة في ضوء المشهد الأفريقي الحالي وبعد توقيع الدول الست في حوض النيل بداية عام 2010 اتفاقية تؤكد فيها حقها في استغلال مياه النهر واعادة توزيعه من جديد، وهو ما يشكل خطورة حقيقية على حصص دولتي المصب وهما السودان ومصر. الاشكالية أن بإمكان الجنوب عندما يصبح دولة أن يعرقل أو يحرم مصر من زيادة في المياه بنسبة %28.6 كانت ستحصل عليها في حال تنفيذ المشروعات التي تم الاتفاق بشأنها وبالأخص مشروع قناة جونغلي الذي سيزيد الكمية الى نحو 3 مليارات متر مكعب من المياه في العالم لكل من السودان ومصر. فالقناة بحسب مراحل التنفيذ ستتحكم في انسياب المياه في النيل الأبيض بكفاءة عالية، وسوف تؤمن للجنوب أراضي شاسعة يمكن استخدامها للمراعي وتساعد في اختفاء مستنقات توالد الناموس وديدان الكبد والذبابة التي تصيب الثروة الحيوانية بالفيروسات.. لذلك يعتقد البعض أن اللعب بموضوع القناة والسدود والمياه من قبل الجنوبيين سيكون نوعا من العبث لأن المتضرر الأكبر في هذه الحالة هم قبائل الجنوب وأهله، وبخاصة منطقة السدود الممتدة من بور بحر الجبل الى بحر الزراف والتي تسكنها قبائل «الدينكا». عناصر الوحدة بين الجنوب والشمال أكثر من عناصر الانقطاع واقامة الحواجز، وهذا في المفهوم العقلاني الذي يفتش عن عوامل المصلحة المشتركة ويستفيد من نماذج مشابهة معمول بها في عدد من دول العالم، لا سيما النظام الفدرالي بحيث يتحول السودان الى «الولاياتالمتحدة السودانية» بدل أن يتمزق ويدخل في حروب وصراعات لن يحصد منها غير التخلف والدمار. فالعمل وفق الحقوق الأربعة، كما يقول خبير سوداني يقيم في الكويت، أقصر الطرق لهذا التعايش والوحدة المنشودة، فحق الاقامة وحق التنقل وحق التملك وحق العمل كفيلة بأن تجعل أهل السودان، في دارفور وجوبا والخرطوم، في وحدة عيش مشتركة يتنقلون في أقاليمها بأمان وسلام.