ذهبت فيما سبق إلى القول بأن الهيمنة وشمولية الحكم هي التي منعت الفكر السياسي الإسلامي من أن ينهض ويتطور على نحوٍ طبيعي ،وأردت أن أخلص من ذلك إلى نتيجة مؤداها أن الاستبداد السياسي هو الذي أوجد هذه التقية التي يتعامل بها كثيرٌ من الفقهاء والعلماء وأهل العلم الشرعي مع الملوك والأمراء وأرباب النفوذ والسلطان ، لكن هناك سؤالٌ يفرض نفسه في هذا الموضع ، ومؤدى السؤال، يا ترى ما الذي مكن العالم الأوروبي من إبداع نظريات سياسية ظلت تتطور جيلاً بعد جيل،مع أن هذا العالم الأوربي هو الآخر حكمته أنظمة ملكية مستبدة إلى جانب هيمنة كنسية دينية كانت تعد على الناس أنفاسهم بممارستها لطقوس الاعتراف والغفران التي ذلت لها نفوس المسيحيين في العالم الأوربي وخضعت، خاصةً في القرون الوسطى، والسؤال الذي يفرض نفسه أيضاً في هذا المقام ، لماذا استطاع المفكرون الاجتماعيون في الغرب تجذير نظرياتهم وأفكارهم التنويرية في الواقع الاجتماعي الأوروبي لتصبح أساساً للبناء السياسي للدولة في الوقت الذي فشل فيه علماء العرب والمسلمين؟. إجابةً على هذا السؤال أرى - وهو رأي قابل للتصحيح والتصويب - أن الفارق بين أمرنا وأمرهم كان كبيراً جداً ، فمجتمع القرون الوسطى في الغرب الأوروبي كانت الهيمنة فيه تقوم على تحالف بين الكنيسة وأهل السياسة مع وجود توازن في القوى منع تغول كلا الطرفين على ما هو حق للطرف الآخر،عملاً بنظرية ما لله لله ،وما لقيصر لقيصر، وبين أهل السياسة وأهل الدين هؤلاء انفتح هامش حرية لأهل الفكر ليدلوا بدلوهم ، ويطوروا أفكارهم ، وهذا لا ينفي أن كثيرين من المفكرين الاجتماعيين في عصر الأنوار قد لاقوا عنتاً ومشقة ودفعوا أثماناً غالية لقاء الجهر بأفكارهم الإصلاحية ،فقد وصل الأمر إلى تعرض بعضهم للمحنة والقتل والتحريق بتهم الهرطقة والخروج على الدين ، إلا أن كل هذه المعاناة لم تكن سوى تجذير للجديد في ذات التربة القديمة - تربة توازنات القوى - استوى هذا التجذير على سوقه يوم استوى فأدى إلى ثورات عارمة أعادت ترتيب الأمور وفق أسس وأطر جديدة ظلت تتطور هي الأخرى إلى أن وصلت إلى ما نراه اليوم في عالم السياسة الأوروبي والغربي عموما،كل خطوة تؤدي إلى ما بعدها إلى أن وصل الحال بهم إلى المنهجية البرغماتية التي تعتمدها معظم دول العالم الغربي اليوم. هذا التوازن بين السياسي والديني افتقدته التجربة السياسية الإسلامية- إلا نادراً- وكان لذلك أثرٌ ضار على فكرة الدولة الإسلامية وإنزالها إلى أرض الواقع على نحوٍ ناجحٍ وموفق، فالملاحظ في التجربة السياسية الإسلامية أن الغلبة كانت للساسة الأمراء على أهل العلم والفقه والفكر والدين ، لا ،بل إن الدين دار عندنا في فلك السياسة إلا نادراً والتفت هي في ثيابه تحت فكرة شمولية الدين لأمري الدنيا والآخرة ،التفافاً ماكراً تم فيه توظيف طائفة علماء الدين لخدمة أهل السياسة الزمنية على نحوٍ لم يأبه له الأولون ، وهذا ما حدا بمحلل اجتماعي وتاريخي مثل ابن خلدون أن يفرد باباً كاملاً في مقدمته لمناقشة هذه الظاهرة ،تحت عنوان «فصلٌ في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين في الجملة» ، وهو يعني بقوله هذا ، أن الحاكم لا يستتب له أمر الحكم إلا إذا توسل إليه بما هو مثالٌ متعالٍ «الدين» ، وهذا التوسل يجعل أمر