استقر لدينا أن حملة نابليون بونابرت على مصر والشام في عام 1798 كانت بداية اتصال العالم الإسلامي بأوروبا، ومن ثم بالحداثة، لكن الباحث والمؤرخ اللبناني د. خالد زيادة يبدد ذلك الأمر في كتابه ?المسلمون والحداثة الأوروبية? والذي صدرت منه طبعتان في القاهرة هذا العام، طبعة عن دار رؤية للنشر وطبعة ضمن أعمال مكتبة الأسرة. اتصال المسلمين بالحداثة الأوروبية قديم، وبدأ بعيدا عن قلب العالم الإسلامي، بل يمكن القول انه ظهر في الأطراف، التي لم تصل اليها القوة العثمانية وهكذا شهدت المدن الهندية الساحلية والتي كان سكانها خليطا من المسلمين والهندوس أوائل المستكشفين والمغامرين والتجار وأيضا الجنود الأوروبيين منذ القرن الخامس عشر الميلادي، وفي القرن التالي مباشرة أقيمت مستعمرات اوروبية في عدد من المدن الهندية وفي القرن السابع عشر انطبعت اللغات المحلية بالعديد من المفردات البرتغالية وظهرت اثار البرتغاليين بين السكان المسلمين، وفي الوقت نفسه كان الانجليز يتقدمون غيرهم من الأوروبيين، وصارت لهم جاليات في العديد من المدن الهندية مثل مدينة ?مدْراس? التي كان بها 400 عائلة انجليزية عام 1640 وشكلوا بداخلها ما يمكن اعتباره مدينة غربية داخل المدينة، وكانت هناك مدن أخرى مثل بومباي وغوا وسورت وكان الى جوار الانجليز الفرنسيون والهولنديون ودخل بعض الأوروبيين في خدمة عدد من الأمراء المحليين عسكريا، فقد استخدم عساف الدولة بناب حاكم اقليم أوود ضابطا فرنسيا اسمه كلود مارتن قبطانا لترسانته البحرية، وهكذا ظهرت المؤثرات والأفكار الأوروبية بين المسلمين في الهند منذ القرن السادس عشر. في الناحية الأخرى من العالم الإسلامي تحديدا منطقة المغرب العربي كان هناك احتكاك مع أوروبا بطرق أخرى، حيث جرت اتصالات من الملوك والأمراء المحليين مع ملوك اوروبا عبر السفراء الذين كانوا يعودون الى بلادهم فينقلون ما شاهدوه وما تابعوه هناك ففي زمن مولاي اسماعيل سلطان فاس ومراكش (1672 1727) زاد عدد السفراء الذين كانوا يعودون من أوروبا مثل الوزير الغساني الذي قدم عام 1690 الى مولاي اسماعيل تقريرا مستفيضا عن مشاهداته وملاحظاته على أوروبا، وبعده بتسع سنوات قدم سفير اخر تقريرا عن أحوال فرنسا في زمن لويس الرابع عشر. وفي نطاق الدولة العثمانية، هناك تجربة قام بها الأمير فخر الدين حيث أقام في ايطاليا فترة أمكن له خلالها متابعة تقدم صناعة الأسلحة والتنظيم العسكري فضلا عن أساليبهم في العمارة وفي الزراعة وبعد عودته الى لبنان حاول الأمير الاستفادة مما رآه، في بناء القصور على الطراز الإيطالي وتنظيم الزراعة ومحاولة زيادة الإنتاج مستعينا في ذلك بخبراء أوروبيين، وفي مقر الدولة العلية لا يجب لنا ان نتوقع انعزالا عن أوروبا ذلك أن مناطق من الدولة العلية كانت تقع فعليا في أوروبا وقد استعان العثمانيون منذ القرن الخامس عشر بالسلاح الأوروبي المتطور، ونتناسى كثيرا أن سليم الأول اجتاح جيش الغوري بالبنادق الأوروبية المتطورة التي فاقت أسلحة المماليك التقليدية، لكن برغم الاتصال مع أوروبا فإن الدولة العثمانية لم تهتم بالقدر الكافي بما يجري في أوروبا من تطور، وفي وسط القرن السابع عشر يبدأ الاهتمام والإدراك لدى بعض الدوائر العثمانية بتقدم أوروبا وتطورها وان الدولة إذا لم تهتم فسوف تزداد القوة الأوروبية وتهدد المسلمين، حتى داخل ديارهم، وبدأ التنادي الى عدم تجاهل القوة الأوروبية، خاصة بعد الهزيمة العثمانية في 1699 ومنذ القرن الثامن عشر يظهر اقتناع واعتقاد لدى عدد من السلاطين العثمانيين بضرورة الإصلاح والتحديث والعمل على الاستفادة من التجربة الأوروبية خاصة في التنظيمات العسكرية وتسليح الجيش ولن يصبح الأمر واقعا إلا مع السلطان سليم الثالث الذي حكم بين عامي 1789 و1807 وقد سعى الى أن يقيم إصلاحا شاملا ونظاما على الطراز الأوروبي فقد استعان بخبراء أوروبيين خصوصا فرنسيين، وكان يرسل طلابا يدرسون في باريس، وتعلموا هناك العلوم الحديثة ودرسوا كذلك مبادئ الثورة الفرنسية والجمهورية، وهي نفس الفترة التي طرق فيها نابليون أبواب مصر والمنطقة العربية. انتباهة مبكرة من الذين لاحظوا مبكرا الصعود الأوروبي شاب عثماني مستنير هو ?عمر طالب? كتب عام 1625 محذرا ومنبها وقال ?الآن اصبح الأوروبيون يعرفون العالم كله فيرسلون مراكبهم الى كل الجهات فتصل الى المرافئ المهمة من العالم، قبلا كان تجار الهند والسند والصين معتادين على المجيء الى السويس، وكانت بضائعهم توزع على ايدي المسلمين الى العالم اجمع، الآن هذه البضائع تنقل على مراكب برتغالية وهولندية وانكليزية الى فربخستان وتنشر على العالم اجمع انطلاقا من هناك. أما ما ليسوا بحاجة اليه فإنهم يأتون به الى استانبول وغيرها من أراضى الاسلام، ويبيعونها بخمسة أضعاف سعرها الفعلي فيكسبون بذلك المال الوفير ولهذا السبب اصبح الذهب والفضة نادرين في بلاد الاسلام?. صحيفة الاتحاد الإماراتية ويضيف عمر طالب: ?يجب على الدولة العثمانية أن تسيطر على شواطئ اليمن وعلى التجارة المارة من هناك وإلا فلن يمر وقت طويل حتى ويسيطر الأوروبيون على بلاد الاسلام?. وفي عام 1719 نظم ابراهيم داماد وزير السلطان العثماني احمد الثالث سفارة الى باريس وطلب الى السفير محمد افندي أن يعد تقريرا بكل ما رآه عقب عودته، وفي العام التالي قدم التقرير الذي حمل اسم ?سفارتنامة باريس? وتحدث عن كل ما رآه من وصف للمدن وللقصور وللعادات والسلوك العام للفرنسيين فلاحظ مثلا انه في فرنسا يكن الرجال الكثير من الاحترام للنساء. بحيث أن النساء يفعلن ما شئن وأوامرهن تطاع في كل مكان. د.زيادة ليس معنيا في المقام الأول بتسجيل السبق التاريخي في الاتصال بأوروبا، فهذه قضية تحكمها الوقائع والتواريخ لكنه مهتم بالتعرف الى جذور الاحتكاك بأوروبا وبالحداثة فمعرفة الجذور تجعلنا نتفهم الكثير من مشاكلنا ونراجع بعض أحكامنا ومواقفنا ونعيد النظر في العديد من قضايانا وهمومنا، خاصة أننا في العالم العربي نهمل جذور القضايا وبداية المشكلات. الكتاب: المسلمون والحداثة الأوروبية المؤلف: د. خالد زيادة الناشر: مكتبة الأسرة مصر