جاءت ذكرى أكتوبر ومرت مرور الكرام من غير إحتفال ولا تخليد لهذه الثورة الظافرة التي بدأت تتسلل من بين أيدينا كم تسللت رموزها وغاب مفجروها واحد تلو الآخر بدءا برحيل حافظ الشيخ الزاكي رئيس إتحاد طلاب جامعة الخرطوم وقت تفجر الثورة وأخيرا الصحافي محجوب عثمان الذي صادف رحيله ذكرى 21 أكتوبر2010م ومن المصادفات أن يكون الشيخ حسن الترابي خارج السودان في الذكرى السادسة بعد الأربعين لثورة أكتوبر . لقد تركت أكتوبر زخما على الحياة السودانية وظل ألق أكتوبر عبر العهود أناشيد تصدح بها الإذاعة وترددها الأجيال لتذكر الشعب بمجد ثورة أكتوبر وبالشهداء الذين سقطوا على طريق النضال والثورة والرغبة الجامحة في التغيير وإستعادة الحرية والديمقراطية . وكان الدافع الأول والأكبر لثورة أكتوبر 1964م هو حل مشكلة جنوب السودان ورفض الطريقة التي تعامل بها نظام 17 نوفمبر 1958م مع المشكلة وإنتهاج أسلوب الحرب والعنف حلا للمشكلة بدلا من الحوار والتفاوض . وكانت الندوة الشهيرة التي تحدث فيها أساتذة جامعة الخرطوم هي التي وضعت الثورة في الطريق الصحيح وقادت الثوار للنصر والتغيير المنشود وقال وقتها الأستاذ العائد للتو من فرنسا الدكتور حسن الترابي الأستاذ بكلية القانون إن مشكلة الجنوب لن تحل إلا من خلال الحرية والديمقراطية . وبعد التغيير الذي تم في أكتوبر مضت مشكلة الجنوب على طريق الحوار من خلال لجنة الإثني عشر ومؤتمر المائدة المستديرة . وكانت مطالب الجنوب تتلخص في تطبيق النظام الفدرالي لحكم السودان ووقع إنقلاب مايو 1969م والذي عمل على حل المشكلة على طريقته الخاصة حيث تم توقيع إتفاقية أديس أببا 1972م والتي كانت ثنائية بين النظام العسكري وحركة الأنانيا تو ( وأنيانيا معناها الحية الرقطاء ) وانتهت تلك الاتفاقية إلى ما إنتهت عليه وجرت مياه كثيرة تحت الجسر بالنسبة لمشكلة الجنوب وتطور العنف والعنف المتبادل ومما يؤسف له أن التمرد الأخير لم يضع أي إعتبار لمعيار الحرية الذي قامت ثورة أكتوبر من أجله وجاء إستئصاليا وركز على الجنوب أكثر من الشمال وعمل على إستقطاب أقاليم السودان بطريقة عنصرية حيث أدخل في جبته جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وسعى للوصول لدارفور من خلال حملة قادها أحد أبناء الإقليم الذي جندته الحركة الشعبية لتحرير السودان التي قادت التمرد في الجنوب في هذه المرحلة . ولم يعبأ الشعب السوداني لحل مشكلة الجنوب على الأسس السياسية والعلمية كما فعل في أكتوبر ولم يخاطب جذور المشكلة كما فعلت أكتوبر وثوارها وقادتها بل ركز على الحل العسكري ودعمه بكل ما أوتي من قوة وغاب الحوار منذ بداية الثمانينيات وبدلا من أن تكون مشكلة الجنوب هي وسيلة الشعب لتحقيق الحرية كما حدث في أكتوبر أصبحت الحرية هي أول غربان لهذه المشكلة وأتسع الخرق بالتدخل الأجنبي في قضية الجنوب التي ظلت وتظل ويجب أن تعامل على أنها مشكلة داخلية تحل من خلال العدالة وقسمة الثروة والسلطة وإعطاء الجنوب قدرا من الحكم الذاتي في ظل السودان الواحد بدلا من تقرير المصير الذي ما أنزل الله به من سلطان والذي لا مرجعية له في واقع الإجماع الوطني السوداني الذي تحقق في إستقلال السودان وفي ثورة أكتوبر التي قامت في الأساس من أجل الجنوب . ماذا يقول شهداء أكتوبر الذين ضحوا بدمائهم الذكية من أجل حل مشكلة الجنوب عن طريق التفاوض كيف تحل علينا ذكرى أكتوبر ولم يبقَ غير أيام معدودة لكي يدخل أبناء الجنوب في إستفتاء على وحدة الوطن ؟ كيف تحل ذكرى أكتوبر والأهداف التي قامت من أجلها الثورة أصبحت منا بعد المشرقين والمغربين وعلى رأس تلك الأهداف الحل السلمي وإنتهاج الحوار بدلا من العنف ثم الإجماع القومي من مؤتمر للحوار بين قادة الأحزاب عرف بمؤتمر المائدة المستديرة والذي شارك فيه ممثلو الجنوب والشمال والشرق والغرب وكافة القوى السياسية وظلت مشكلة الجنوب بفهم أكتوبر وروح أكتوبر هي قضية قومية تهم كل السودان فكيف تصبح قضية تهم المؤتمر الوطني والحركة الشعبية وحدهما أو حتى تهم أبناء الجنوب دون أبناء السودان الآخرين في الشرق أو في الغرب . وقد أعجبتني الدعوة التي قدمها ملتقى شرق السودان بقيادة الأستاذ موسى محمد أحمد رئيس مجلس أمناء ملتقى الشرق لسلاطين الجنوب بالعاصمة القومية والتي كانت بغرض التفاكر والتعاون بين أبناء الشرق وأبناء الجنوب في قبائلهم وتجمعاتهم بالعاصمة القومية من أجل تحقيق الوحدة يحدث هذا النشاط من ملتقى الشرق وقادته من أبناء الولاياتالشرقية في الوقت الذي صار فيه أمر الوحدة هينا عند البعض الذين يقول بعضهم قطر عجيب أودي ما يجيب أو يستهينون بالوطن ويقولون إن الوحدة يمكن أن تتحقق بعد الإنفصال وكأنما الإنفصال نزوة سياسية أو مغامرة غير مضمونة العاقبة . ونسي هؤلاء أن الشهداء الذين سقطوا في أكتوبر والذين ضحوا بدمائهم الذكية في الجنوب كان دافعهم الأول والأخير هو وحدة الوطن وسلامته بدلامن الإستهتار به وتعريضه للمخاطر والضياع .. يا هؤلاء إن الواحد من الناس لا يرضى بأن يقتطع شبراً من مزرعته الخاصة ويموت على حدود بلاده في الزراعة المطرية بدارفور وكردفان فكيف نسمح بذهاب أغلى جزء من الوطن هكذا ولم يمض على ذكرى 21 أكتوبر غير أيام معدوة . عودي يا أكتوبر وعيشي فينا بآمالك العراض .