تحقيق الجودة الشاملة في أي من مجالات الحياة لا يتأتي إلا بشروط أربعة، علم وتخطيط وغاية عظمى يسعى الفرد أو المنظومة لتحقيقها يتبعها «تقويم» حصيف في نهاية كل فترة لما جرى وما سيجري توقاً وأملاً لتحقيق الغايات العظام التي من أجلها تعمل المؤسسة أو المنظومة. أسوق هذه المقدمة وأنا أرصد المخرجات «البائسة» لآخر جمعية عمومية لاتحاد كرة القدم السوداني في دورة انعقادها العادية بكلية بلغت «54» عضواً من أصل «73» بعد أن أسدل الستار على موسمها التنافسي لعام 2009م 2010م، وأفضت نهايتها المعهودة عن «الهلال» البطل ووصيفه «المريخ»، ثم المريخ البطل ووصيفه الهلال في البطولة الأخرى. إذن طرافة الدوري السوداني المسمى «بالممتاز» تبدأ من جمعيته العمومية التي تنتخب الاتحاد السوداني لكرة القدم، وعنصر الطرافة فيها أن أعضاء الجمعية العمومية الذين ينتخبونه ويرسمون سياساته وخططه وقوانينه التي تحكم مسيرة الكرة السودانية، تأتي بهم مدن وقرى وحلال نحترم إرثها الثقافي والاجتماعي كجزء عزيز من النسيج السوداني الأخاذ، لكنها رغم هذا لا تمثل وزناً ذا أثر في كرة القدم، وهذا بالطبع لا يعيبها في شيء فالمقام هنا مقام «كرة ورياضة». فمن كلية هذه الاتحادات هناك اتحادات ذات ثقل جماهيري وتاريخي ... بورتسودان، مدني، الحصاحيصا، شندي، الأبيض، كسلا، عطبرة، الفاشر. أما البقية فهي اتحادات محلية «تركب في سرج واحد» مع الاتحادات آنفة الذكر، اتحادات مثل المعيلق، طابت، العيلفون، بابنوسة، أم روابة، الدلنج، حلفاالجديدة والقديمة، الدويم، خشم القربة، ود الحداد، جبل أولياء، السوكي، كريمة، أرقو، الباوقة، القطينة، ربك، سنجة، 24 القرشي، أبو زبد، الجنينة، النهود، مليط. هذه الاتحادت «الضعيفة» فاقدة البني التحتية التي زرعها الذين يقودون الكرة اليوم وأسلافهم، ونضع عليهم آمالنا العراض لانتشال الكرة من محنتها بتخطيط يفتقد للحنكة وبعد النظر، وربما تكون الانتخابات واحدة من هذه المسببات التي تنشط فيها عمليات الاستقطاب والتكتلات على النحو «الطريف» الذي حدث في آخر انتخابات وأدت نهايتها «الدراماتيكية» بالإطاحة بأحد أشهر أساطين إدارة الكرة السودانية «بروفيسور شداد»، وجاءت ب «الحيران» الذين انقلبوا على شيخهم في انتخابات «هزيلة» شهد الجميع على مكرها وخباثتها... ما علينا. ولكن الذي يعنينا في هذا الأمر أن «الحيران» يتخذون المنحى ذاته في إدارة دوري «الهلال والمريخ» الممتاز، وحتماً ستتواصل المسيرة على الشاكلة ذاتها، لذلك كان من الطبيعي أن تكون المنافسة وتنظيمها تصب في خانة «الطرافة».. هناك فريقان فقط يتحكمان في البطولة منذ نشأتها هما الهلال والمريخ، ويتبادلان البطولة بالتناوب، والفريق الذي يحظى بهزيمة الآخر في الدورتين هو الفريق الذي سيفوز بالدوري، أما بقية الفرق فتلعب دور «الكمبارس»، وعليها فقط المشاركة في هذه المنافسة «كتمامة جرتق» للاستفادة من دخول مبارياتها مع فريقي الهلال والمريخ لتسيير نشاطها في بقية الموسم، أو المحافظة على وجودها في الدرجة الممتازة.. هذا هو أقصي طموحها، والإحصاءات التالية تعكس «طرافة» الموقف... الهلال بطل الدوري حاز على «70» نقطة والمريخ وصيفه حازعلى «67» نقطة، والخرطوم ثالث الدوري حاز على «36 نقطة» بفارق «34» نقطة عن البطل، والميرغني متذيل المنافسة حاز على «22» نقطة بفارق «48» نقطة عن البطل، أما بقية الفرق من الثالث وحتى الأخير الفارق بينهما لا يتعدى الثلاث أو الخمس نقاط تقريباً.. بربكم هل هناك طرافة أكثر من هذه !! هناك موقف آخر أكثر طرافة، فالهلال بطل الدوري استطاع أن يحقق «29» هدفاً في أربع مباريات متتالية في الدوري الطريف مع هلال كادقلي 5/ صفر ومع الخرطوم 5/ صفر ومع الموردة 6/ صفر ومع اتحاد مدني 7/صفر.. هذه النتائج حققها الهلال في أقل من أسبوعين.. أبعد هذا كله «في دوري يا أخوانا أطرف من كده !» وهل مثل هذه المنافسة تحتاج إلى «13» صحيفة رياضية متخصصة، وعشرات الصفحات الرياضية في الصحف اليومية، والمئات من الصحافيين الرياضيين. وبنظرة فاحصة لأغلب الدوريات في العالم مع الأخذ في الاعتبار تجربة مصر الشقيقة، تشكل فرق المؤسسات عنصر القوة في المنافسة، فلماذا لا تعدل قوانين المنافسة والقواعد العامة والنظام الأساسي بحيث تسمح لمؤسسات مثل جياد، دال، سوداتل، البترول، الجيش، الشرطة، السجون، كنانة وغيرها من المؤسسات للدخول إلى حظيرة الدوري، لتعيد للمنافسة قوتها وهيبتها. وثمة أمر آخر، ما الحكمة من وجود أكثر من خمسين اتحاداً محلياً لمناطق لا تشكل وزناً في منشط كرة القدم ومساواتها مع ولايات الخرطوم، بورتسودان، مدني، كسلا، الأبيض وعطبرة. وإحدى المناطق التي أسهم مندوب اتحادها في إدارة دفة الانتخابات الأخيرة انهزم بطلها 17/ صفر من الهلال في منافسة شائهة أخرى تسمى دوري كأس السودان، واستطاع هداف الهلال «سادومبا» دخول منظومة «جينيس» للأرقام القياسية بإحرازه لتسعة أهداف في هذه المباراة الطريفة. وإذا أجرينا عملية إحصاء رياضي في مجموع لاعبي الأندية التي تشارك في الدوري الممتاز السوداني، نجد أن 99.9% منهم من الخرطوم... وماتت المواهب في الولايات بسبب هذه المنافسة القومية «الكسيحة» وانعدم التنافس المتكافئ بين هذه الفرق، فماذا ينتظر الاتحاد وما دور تقانة كرة القدم ذلك القصر المنيف الذي أنشئ خصيصاً لإدارة زمام الأمور الرياضية وإحداث التطور المطلوب؟ وما دور مؤسساتنا الأكاديمية الرياضية العليا التي تخرج في كل عام أرتالاً من الكوادر الرياضية المؤهلة، ولا يجدون منفذاً للدخول لمؤسسات الرياضة طالما الأمر مقصورٌ على أفراد بعينهم ظلت تتكرر على قيادة هذه المرافق بصورة شبه مستدامة «في إدارة الرياضة لا يوجد معاش ولا يوجد صالح العام». ثمة أمر آخر يصب في خانة الدعوة الصريحة إلى دخول فرق المؤسسات للدوري السوداني، ففريق «النسور» الهاشماب سابقاً الذي صعد للدرجة الممتازة هذا العام، فريق تتبناه مؤسسة الشرطة أو هكذا يقال، فهذا الفريق سيشكل منافساً خطيراً لفرق الهلال والمريخ، لأنه فريق تتوفر فيه كل عناصر الاستمرار من دعم ومتابعة وإمكانيات، والذي حققه «النسور» في فترة وجيزة عجز عن تحقيقه «الهاشماب» لأكثر من «70» عاماً، لأن طريقة إدارته وممارسته للمنشط تتبع لذات فكرة النشاط في جميع فرق السودان، ما عدا الشيخين الجليلين «الهلال والمريخ». إن عشقنا للهلال والمريخ وتحزب كل شعب السودان تقريباً وانتماءه لكليهما، يجب ألا يلهينا عن التفكير الجاد في التخطيط السليم لرسم خارطة جديدة للكرة السودانية، تعيد إليها هيبتها ومكانتها بين الأمم، ولا تغرينا النتائج والانتصارات المحدودة التي يحققها فريقا الهلال والمريخ في المنافسات الإفريقية، فهذه انتصارات قصيرة الأجل. ولعل الأمر قد وضح من خلال النتائج الباهتة التي حققها فريقنا الأولمبي الأمل المرتجى في دورة «سيكافا» التي تقام هذه الأيام.. فقد وصلنا محطة الهزيمة من «زنزبار 2/صفر» إذن القضية هنا هم عام وليست مملكة خاصة لأفراد بعينهم يتصرفون فيها كيفما يشاءون، وفقاً لقناعاتهم وتوجهاتهم وقدراتهم، «فالسلوك فرع عن التصور» كما يقول علماء النفس. ولعل هذا النمط من السلوك «السوداني الخالص» قد أضرَّ ضرراً بليغاً، وفتح جروحاً نازفة لم تندمل بعد، عندما يخلط كثير من الكتاب والمناصرين العلاقات العامة والمنافع الشخصية والصداقات وصلات القربى، ويقرنونها بالعمل العام، فيناصرون هذا الفريق أو ذاك انطلاقاً من هذه القناعات، وانساق هذا السلوك «القاصر» والمكر السيئ للأسف الشديد لكثير من صحافيينا وكتابنا في عدد من الصحف الرياضية وغيرها، التي تمحورت حول فريقين لا ثالث لهما الموج الأزرق والأحمر الوهاج، والبعض منهم تحول إلى سماسرة في «سوق» الصحافة الرياضي، يروج لهذا اللاعب أو ذاك، أو يتسبب في شطبه وتشريده وتسجيله خاصة في موسم التسجيلات التي نتنفس هواءها المسموم هذه الأيام ! وبين هذه وتلك اتخذت فئة أخرى سياسة «القتل» بالكلمات وتدمير مفردات لغتنا العربية الجميلة بإدخالهم مصطلحات على شاكلة «حمام ميت، ماسورة، دلاقين، رشاشات» وأشياء من هذا القبيل، هذا فضلاً عن «هيافة» الموضوعات التي تتناولها كثير من الأعمدة وسذاجة محتواها «وركاكة لغتها» «وثقالة دمها» في أحيان كثيرة ... وأخيراً فأولى مراحل العلاج إذا أردتم خيراً للكرة السودانية، تبدأ بإعادة النظر في «الجمعية العمومية» لاتحاد كرة القدم السوداني بصورتها الطريفة هذه، التي تشكل للأسف الشديد «السلطة» العليا لانتخاب من يقودون الكرة في البلاد، ثم بعدها نفكر في استضافة المنافسات الدولية. مع أطيب التحايا Mubarak [email protected]