جيفري ساكس النيويورك تايمز إن أفضل فكرة للعام 2010م أتت من تلقاء مملكة بوتان بجبال الهملايا، فقد سأل رئيس وزراء المملكة جيغمي ثينلي الذي كان يقف أمام قادة العالم في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي السؤال الاقتصادي المُفحم لزماننا هذا: (ماذا سيكون مسعانا الجماعي باعتبارنا مجتمعاً متقدماً طالما أن كل شعوبنا تتجاوز مهددات البقاء الأساس؟). واقترح رئيس وزراء مملكة بوتان الإجابة حيث قال: دعونا نجعل من المسعى الواعي لأسباب السعادة دعامة جديدة للتعاون الدولي «الهدف التاسع لتنمية الألفية «. لقد سعدت وأنا أنظر من جانب القاعة بالهتافات العفوية والتصفيق العفوي الذي ساد الاجتماع لأول مرة خلال يومٍ طويل من الخطابات. إن العالم في الواقع طالما عاش على المخاوف وقلما كان عالماً سعيداً، فالمشكلة كما شرحها رئيس الوزراء ثينلي بوضوح لم تكن في الحقيقة نقصاً في السلع المادية حتى وإن حدثت في عامٍ من أعوام الكساد الاقتصادي، فالعالم أغنى مما كان عبر تاريخه وهذا بالتأكيد هو الحال في البلدان الأغنى بل حتى في تلك البلدان التي ينتاشها انكماشٌ اقتصاديٌّ دوري. والسعادة كما عبّر عنها تقليد مملكة بوتان العظيم في بوذية جبال الهملايا لا تأتي من مجرد البحث عن الدخل بل بحسب مفردات ثينلي «تأتي من توازنٍ حكيم بين المكاسب في الرفاهية المادية ونمو النفس والروح في بيئةٍ عادلة ومستدامة». وبهذا المعنى فإن العالم يعتبر بعيداً عن التوازن، فبقدرما يحاول الاقتصاديون أن يستعيدوا التوازن لإجمال العرض والطلب أو للقيم النسبية للعملات القومية لكن نجد حالات الخلل في مجتمعاتنا أعمق بكثير من مراوغات المجاميع الاقتصادية الكلية. هناك قليل حكمةٍ في موازنتنا الحالية بين الكسب المادي ونمو النفس والروح، فالبشرية ما زالت تعكس القليل من القدرات للاستمرار في المحافظة على الموازنة الإنتاجية والبيئية، فالتحدي الكبير في العام 2011م وما بعده يتمثل في إيجاد ذاك التوازن الحكيم الجديد. ولا يوجد شعورٌ بالخلل أعظم مما هو في الولاياتالمتحدة، فالولاياتالمتحدة تظل هي الأكثر إنتاجاً وذات اقتصاد أكثر ديناميةً في العالم مع كل المشاكل الحقيقية للانفجار الإسكاني الذي أصابه الإفلاس ومستوى العطالة العالي والعجز في الميزانية الذي بات خارج السيطرة. إن الصفوف الطويلة المصطفة ليلاً ونهاراً خارج مخازن التفاح الضخمة في منهاتن تعكس اقتصاداً ما يزال ينتج آخر شيء ويراقب انتشاره كما ينتشر الحريق الهائل على نطاق الدولة والعالم، ولكن مع ذلك فإن الأمريكان يعيشون في الحضيض أكثر من ذي قبل ذلك أن السلع متوفرة ولكن العرض من السعادة ضئيل جداً. وبالطبع فإن جزءاً من المشكلة هو أن السلع وفيرة بيد أنها غير متوفرة لعشرات الملايين من الأسر الفقيرة أو الأسر التي تترنح على حافة الفقر. إن تفاوت الدخل الأمريكي يعتبر تفاوتاً مذهلاً، فإجمال نسبة الواحد في المائة الأغنى من العوائل يساوي إجمال نسبة ال90 في المائة الأكثر فقراً. فحالات التباين اليوم تبذ الحالات التي سبقت [الكساد الكبير] وربما تبذ تجاوزات العصر الذهبي لبارونات القرن التاسع عشر النهابين. إن عمليات إنقاذ المصرفيين فضلاً عن إنقاذ البنوك ذكَّرت الأمريكان بأن الثراء الفاحش يخلق تلاعباً سياسياً فاحشاً أيضاً وكان ذلك سبباً كافياً لنوبة خطيرة من التعاسة كما كان سبباً كافياً للحاجة الملِّحة للإصلاح السياسي والاقتصادي. ولكن المشاكل تصير أعمق من ذلك، فأمريكا وقعت في فخِّها الخاص بطوعها ورضائها حين صوَّت الأمريكان للمرشحين الذين وعدوا بتخفيض الضرائب لصالح الأغنياء وتخفيض مدفوعات الرعاية الاجتماعية لصالح الفقراء وإبطال سنِّ قانون لمجابهة تغير المناخ الذي يتسبب فيه الإنسان والذي تعتبر أمريكا إحدى المساهمين العالميين الرئيسين فيه. وأيد الأمريكان بشدة غزو أفغانستان والعراق حتى رأوا تلك الأحداث العنيفة وقد أصبحت ذات طابعٍ سلبي، فالعوائل الأمريكية اقترضت واستدانت لأقصى حدود الاستدانة حتى أفضت بهم انتكاسات السوق إلى وباء حجز الرهون العقارية والإفلاسات الشخصية. وبالطبع ليس أمريكا وحدها، فبقية العالم أيضاً خلق مثل هذه التجاوزات وحالات الخلل المتزايدة، فالصين في سعيها من أجل النمو الاقتصادي الجبار قد أفسدت هواءها وأنهارها كما أن البرازيل وإندونيسيا قبلتا بتدمير مفرط لبقية الغابات المطرية في العالم. ورغم الاجتماعات السنوية لحكومات العالم لمدة 16 عاماً منذ وضع اتفاقية الأممالمتحدة للتغير المناخي موضع التنفيذ عام 1994م، لم يجد العالم قاطبة اتفاقية حول خطة عملية لمنع التغير المناخي الأسوأ الذي يتسبب فيه الإنسان أو للتكيف بصورة فاعلة مع التغيرات المناخية الجارية سلفاً. لقد أبدى العالم ذات الإهمال في حماية شعوبه الأكثر ضعفاً ولكن هناك عزاءً في أن 140 زعيماً من زعماء العالم أتوا إلى الأممالمتحدة في شهر سبتمبر لتكريس أنفسهم للأهداف الإنمائية للألفية وهي الأهداف المتفق عليها عالمياً لمحاربة الفقر والجوع والمرض. هذه الأهداف الإنمائية وجدت لها مكاناً في السياسة الدولية والوعي السياسي برغم الحروب والانقلابات والكساد، ومع ذلك فإن البلدان الغنية باتت تقطع من حين لآخر الوعود الكبيرة للبلدان الفقيرة بتقديم الدعم المالي واللوجستي وهي وعودٌ لم تتحقق أبداً، فبعد عامٍ تقريباً من زلزال هاييتي المدمِّر الذي ترك مئات الآلاف من الناس مشردين ونازحين فشل الكونغرس الأمريكي في تخصيص سنتٍ واحد من صناديق إعادة البناء برغم التعهدات المكرورة للمساعدة الأمريكية. إن توازناً حكيماً جديداً يجب أن يكون هدفنا ونحن نلج عاماً جديداً وعِقداً جديداً وما تبقى من خمس سنواتٍ لتحقيق الأهداف الإنمائية للتنمية بحلول تاريخها المحدد ذلك أن الاندفاع اليائس من أجل الفوائد والمكاسب العسكرية في العقد الماضي قد هوى بنا إلى التدني. لقد آن الأوان لإعادة بناء النفس والروح حيث يكمن الحل في التفكير بصورة أكثر وضوحاً حول المطالب والاحتياجات وبالتالي نعيد توازن طاقاتنا الشخصية والسياسية، ويجب أن تكون أول إعادة توازن بين الأغنياء والفقراء. إن الفجوات التقليدية بين العوالم «المتطورة» والعوالم «النامية» قد تمَّ ردمها بفضل النمو الملحوظ للاقتصادات الناشئة، فالنادي الصغير لمجموعة البلدان الثماني الكبار أفسح المجال سلفاً للمجموعة الأكبر للبلدان ال20 الكبار التي تضم الصين والهند والبرازيل والاقتصادات الناشئة الأخرى. ومن الضروري توسيع الدائرة أكثر حتى تستطيع البلدان الأكثر فقراً اليوم أن تنال موطئ قدم في الازدهار وتشارك مشاركة كاملة في الريادة الدولية. ويجب علينا نحن بالطبع أن نفعل ذات الشيء داخل مجتمعاتنا المقسمة، فأمريكا والمجتمعات الأخرى غير المتكافئة يجب أن تعيد توازن ثقافة الثروة الضخمة التي تمضي بجانب فقرٍ مدقع. وقطعاً ليس هناك حاجز فني لضمان أن يكون لأي طفلٍ فقير أوغني طريق إلى الصحة اللائقة والتعليم النوعي والمشاركة الكاملة في الاقتصاد، فأغنياء أمريكا لديهم ثروة أكبر من احتياجاتهم الزائدة وانضمامهم إلى محاولة القضاء على الفقر سيزيد كثيراً من سعادتهم فضلاً عن سعادة الآخرين. أما إعادة التوازن الثانية فيجب أن تكون بين الحاضر والمستقبل ذلك أن اقتصادنا الاستهلاكي الذي تغذيه وسائل الإعلام أثار جنون النزعة الاستهلاكية فوق كل النزعات الأخرى خلال العشرين عاماً الماضية. في الفترة التي سبقت الانهيار المالي أوقف الأمريكان وكثيرون غيرهم الادخار وتلقفوا بدلاً عن ذلك قروض البطاقات الائتمانية والرهونات العقارية الأعلى سعراً من القيمة الأصلية بعروضٍ قدمت لهم من دائنين غير مسؤولين. إذن دعونا ألا نخدع المستقبل ونحن نجوس خلال الحطام المالي. أما إعادة التوازن الثالثة فيجب أن تكون بين الإنتاج والطبيعة إذ إن حسابات إجمال ناتجنا القومي تسجل عادةً أية شجرةٍ ساقطة ومياهاً جوفية تم ضخها بإفراط والصيد المفرط للحياة البحرية المهددة بالانقراض لتكون جزءاً من دخلنا القومي، في حين يعتبر ذلك في الواقع وببساطة نضوباً في رأسمال الطبيعة. لقد بلغنا حدود البقاء البيئي للكوكب وآن لنا أن نتوصل إلى وعيٍ جديد حيال خطورة قوتنا المدمِّرة وأن نتراجع عنها قبل فوات الأوان. ويجب أن تكون إعادة التوازن الرابعة بين العمل ووقت الفراغ، فعندما حاول الاقتصاديون العظام والمصلحون الاجتماعيون في الماضي تصور مستقبل للبذخ التكنولوجي تخيلوا أن الناس سينعمون من خلال وقت الفراغ العريض والاهتمام بمتع الحياة: أي الاستمتاع بالآداب والفنون وتعليم الكبار والصداقة والإبداع، ورغم ذلك فقد حدث البذخ التكنولوجي فأصبحنا مسعورين أكثر من قبل على الأقل في الولاياتالمتحدة وبلدان الاقتصادات الاستهلاكية الأخرى. فإذا قمنا بدلاً عن ذلك بالتقاط أنفاسنا وبتخفيض ساعات عملنا سيكون هناك انتشار أفضل للوظائف واهتمام أفضل بصحتنا ورفاهيتنا طويلتي المدى. ويجب أن تكون إعادة التوازن الخامسة في مفهومنا للأمن القومي، فالولاياتالمتحدة تخصص حالياً حوالى 750 بليون دولار سنوياً لأغراضها العسكرية ولكنها تخصص 15 بليون دولار فقط لمساعدة البلدان الأكثر فقراً في العالم لمواجهة المرض والجوع والمجاعة. ففي أفغانستان نجد 100 بليون دولار تصرف على الإنفاق العسكري يصاحبها بكل سخف ما بين بليون إلى 2 بليون دولار في العام لدعم التنمية. إن المأساة والسخرية هما بالطبع أن الاضطراب في أفغانستان واليمن والصومال وغيرها لا يضرب بجذوره في الجانب الآيديولوجي في حدِّ ذاته بل في الجوع والأمية وغياب العمل واليأس والقنوط. إن كل الجيوش والطائرات بدون طيارين في العالم لن تنشئ أبداً الآبار والعيادات والمدارس والمزارع الإنتاجية التي يمكن لها وحدها أن تخلق السلام الحقيقي للبلدان التي تمزقها الصراعات اليوم وإن أي تقليدٍ دينيٍّ عظيم في العالم يعطي موجهاتٍ شبيهة بالموجهات التي قدمها رئيس الوزراء ثينلي، فالأناجيل تحذرنا أيضاً من أننا يمكن أن نكسب الدنيا ولكن نخسر أرواحنا فنحن ندخل العام 2011م مرتبكين ومتفسخي الأخلاق وينتابنا الشعور بالفقر مع أننا نعيش في عهد الإنتاج والازدهار الأعظم في التاريخ البشري. فليس هناك مشكلة اليوم من مشاكل الفقر والطاقة النظيفة أو الأمن القومي بعيدة عن متناول وسائلنا الفنية والفكرية، لكن مشكلاتنا تكمن في مكان آخر تكمن في حيرتنا حيال مصادر السعادة المطلقة. إن العام 2011م يمكن أن يكون بداية لعهد جديد من الرفاهية إذا أدركنا قوة أدواتنا وأشواقنا لمتع الحياة الأعمق، فهذا الخيار هو خيارنا وخيارنا وحدنا. *جيفري ساس لفت الانتباه في الثمانينيات والتسعينيات باعتباره نصيراً لعلاج الاقتصادات الضعيفة ب»الصدمة الكهربائية»، وهو يعمل الآن مديراً لمعهد الأرض بجامعة كولومبيا.