٭ انطلقت الانتفاضة الشعبية في تونس من شرارة صغيرة أشعلها شاب خريج جامعي عاطل عن العمل، سُدت في وجهه كل دروب الحياة، في بلد تتحكم فيه القبضة البوليسية ويتمكن فيه الفساد من كل مفاصل الدولة ومرافقها، متمثلاً ومتجسداً في رموز السلطة الحزبية وأجهزتها القمعية والمحاسيب. ثم اتسعت دائرة الشرارة تدريجياً من ضاحية إلى أخرى، ومن مدينة إلى مدينة، الأسبوع تلو الأسبوع حتى تحولت إلى بركان داوٍ غطى كل تونس تحت عنوان رئيس هو «الشعب يريد التغيير». وعمت المظاهرات الاحتجاجية كل أرجاء البلاد، وتوحّد الناس جميعهم حول ازدواجية الحرية والخبز التي سوف لن تتحقق إلا بزوال ازدواجية القمع والفساد السلطوية. هكذا انهار نظام بن علي سابقاً رغم افراطه في استخدام العنف ضد شعب أعزل لا يملك غير صدور مفتوحة للرصاص، وحناجر تطلق الهتاف في الهواء الطلق. وهرب رأس النظام بجلده يستجدي بلداً يأويه، تلاحقه لعنات الشعب الغاضب ولعنات التاريخ، بينما بقى زبانيته بانتظار العقاب المناسب الذي سوف يقرره شعب تونس، جراء إذلالهم وإهانتهم له طيلة عهد رئيسهم المخلوع الهارب. ٭ الانتفاضة التونسية استحوذت على عقل وضمير كل الشارع العربي باهتمام وقلق شديدين، حيث صار الناس يتابعون تفاصيلها لحظةً بلحظة، ويرصدون نتائجها خطوة بخطوة، ويتلقون نجاحاتها بارتياح، لينطرح السؤال المركزي هنا حول سر هذا الانتباه الزائد والتجاوب العفوي التلقائي الواسع الذي حُظيت به هذه الانتفاضة من قبل الجماهير في كل المنطقة، بحيث طغت سريعاً على أحداث ساحل العاج التي كانت الأبرز بين الأحداث الإقليمية والدولية. لقد تمددت الانتفاضة التونسية بوصفها حالة سريعاً على «الجزائر» بذات الشعارات والمطالب التي تدعو الى رحيل النظام والتغيير الشامل واطلاق الحريات ومواجهة الغلاء الطاحن بإجراءات اقتصادية عملية، ومعالجة مشكلة البطالة وسط الشباب، ومحاربة الفساد ومؤسساته ورموزه. ثم انتقلت الحالة الى «الاردن» ثم الى لبنان «مع الفارق في التفاصيل»، ثم الى اليمن ومصر وهكذا، بذات المطالب والتعبيرات والروح، اي احتجاجات سلمية واندفاع شعبي وتوحد حول الشعارات الكبرى التي سقفها تغيير النظام والحرية والعيش الكريم. وعلى الرغم من أن هبة الجماهير المصرية قد خطفت الأضواء عن بقية الساحات بما فيها تونس، إلا أن هذه الهبة الجماهيرية ما تزال مستمرة على نطاق واسع، ويتوقع لها التمدد أكثر وأكثر، كما تشير الى ذلك الارهاصات في البلدان العربية. وهناك ارهاصات في دمشق وارهاصات في المغرب وفي السودان. ٭ في السودان كان هناك حراك متزامن مع شرارة «البوعزيزي» في تونس عند إعلان السياسات الاقتصادية الاخيرة لوزارة المالية، وما ترتب عليها من زيادات في الاسعار. فقد خرجت اول مسيرة احتجاجية قبل شهر تقريباً في مدينة «شندي» تحركت من الجامعة والتحق بها بعض المواطنين، ثم اندلعت مسيرة أخرى في «ود مدني» استمرت ليومين، تلتها مسيرة في «الكاملين» قام فيها المتظاهرون بإغلاق الطريق الذي يربط الخرطوم ومدني لمدة اربع ساعات، وكذلك مسيرة في «الحصاحيصا». ومسيرة ايضاً في مدينة «بابنوسة»، وأخيراً في «الخرطوم» و«الأبيض». مسيرات احتجاجية سلمية وقودها الطلاب والشباب، وأغلب هذه التظاهرات الاحتجاجية كانت ضد الغلاء والاوضاع المعيشية القاسية، أما مسيرة الخرطوم الأخيرة فقد دعا لها ونظمها من عُرفوا بشباب الفيس بووك، وكان تحديد يوم 03/1/1102م لهذه التظاهرة هو الاحتجاج على جريمة فصل جنوب السودان عن وطنه الأم، ولكنها تزامنت مع حالة الانتفاضة في مصر، الامر الذي أضاف لها بُعد الدعوة لتغيير النظام مثله مثل بقية الانظمة العربية في المنطقة. كما أن هذه التظاهرات السودانية فضلاً عن مسألة الغلاء وفصل الجنوب والأزمة السياسية، حركها من جانب التصريحات المستفزة التي ظلت تصدر عن مسؤولي السلطة، بتهديد خصوم حزب المؤتمر الوطني الحاكم وتحذيرهم للمعارضة من أية محاولة للخروج الى الشارع، مثل تصريحات مدير الشرطة ووالي الخرطوم ومظاهر استعراض القوة. وانحصار التظاهرات الاحتجاجية وسط الطلاب حتى الآن سببه من جانب آخر التضييق الخانق على النشاط السياسي في الجامعات، حيث ظلت هذه الأخيرة مسرحاً لاحتكاكات مستمرة بين الطلاب من الفصائل المختلفة ومحسوبين على حزب السلطة يعتدون عليهم وعلى منابرهم بأشكال مختلفة وبصورة متكررة. وهذا المناخ الاستفزازي يراكم ردود الأفعال تدريجياً لكيما تعبر عن نفسها وقتما سنحت الفرصة. وقد أثبت هؤلاء الشباب أن سياسة التخويف والتهديد لا تفيد معهم شيئاً. ٭ القاسم المشترك الأعظم الاول في كل الساحات العربية هو حالة القطيعة بين الشعب والسلطة، وتفشي ظاهرة الاستياء الشعبي ضدها، حيث تمثل السلطة في نظر المواطن رمزاً للتسلط والقهر والفساد. وأهم من ذلك تمثل السلطة رمزاً للعجز وعدم القدرة على التصدي لمطالب المواطن الحياتية اليومية البسيطة، ما يستوجب بنظره تغييرها والاتيان بسلطة معبرة عنه، وقادرة على تلمس مشكلاته وهمومه. وفي تعليق لأحد المتظاهرين بميدان التحرير في القاهرة لقناة BBC arabic قال «عايزين حد يحس بالناس.. يحس بالجوع اللي في البلد» كما نقرأ بعض الشعارات التي يرفعها المتظاهرون مثل نحن نريد الحرية لا لتوريث الحكم لا مبارك ولا سليمان.. الاثنين عملاء اميركان. ٭ والقاسم المشترك الأعظم الثاني هو طبيعة هذه الأنظمة نفسها، حيث أنها لا تكترث الى الشعب بقدر ما تكترث الى وسائل تمكين نفسها في السلطة، ولذلك فهي تبدد أموالاً طائلة على الأجهزة القمعية، لاعتقادها بأن القمع هو الأسلوب الوحيد الذي يحافظ على بقائها في الحكم مدى الحياة، أو يمكنها من توريث الحكم أسرياً، لذلك نلحظ توحداً في أساليب التعامل مع هذه الاحتجاجات السلمية من قبل السلطة ابتداءً من الإفراط في استخدام القوة والعنف، الى الاعتقالات والسجن، الى تقييد حرية الصحافة والاعلام عموماً، الى اتهام المتظاهرين باتهامات لا اساس لها مثل الفوضى والشغب، الى محاولة اختراق الاحتجاجات بعناصر مدسوسة، لاستهداف الناشطين والتقاطهم او اقتناصهم، وهكذا. وقد أثبتت التجربة أن كل هذه الأساليب لا تفيد، وإنما تفضح النظام وترتد عليه، حتى إذا ما استنفدها جميعاً يبدأ في اجراءات تكتيكية لامتصاص غضب الشارع الذي يكون قد وصل مرحلة اللا رجعة. وفي تونس كانت قوات الأمن الخاصة بابن علي تستخدم سيارات تاكسي، وتطلق النار بطريقة فوضوية وتكسر المحال التجارية، وتمارس التخريب. وفي مصر ضُبط بعض منسوبي الشرطة السرية بالاسكندرية يقومون بكسر بعض المحال التجارية، كما استشهد بعض المتظاهرين برصاص القناصة. ٭ أما القاسم المشترك الأعظم الثالث فهو علاقة هذه الانظمة الملفوظة من شعبها بالامبريالية الغربية، وكذا علاقة الاخيرة بها. فهذه الأنظمة تشترك في خضوعها التام للولايات المتحدة والغرب عموماً، خاصة على الصعيد الاقتصادي، حيث تتبنى وصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي معروفة النتائج. وكل هذه البلدان تعتمد سياسة تحرير الأسعار وخصخصة مؤسسات القطاع العام، وتخفيض العمالة، وانسحاب الدولة عن دورها الاقتصادي الأساسي وتحوُّلها الى سمسار كبير، بالاعتماد على الضرائب الباهظة والجمارك وفرض الرسوم على الخدمات وما الى ذلك. فهذه الوصفة نتيجتها المباشرة تعميق الفقر وزيادة عدد الفقراء، في مقابل تكدس الثروة في أيدي قلة من متنفذي السلطة وأدوات قمعهم، بينما تذهب الثروة الأكبر للبلدان الكبرى عن طريق شركاتها التجارية العاملة في البلد. لذلك تلاحظ مواقف مخزية لبلدان مثل أميركا وبريطانيا وفرنسا وغيرها من انتفاضة الشعب العربي في تونس او في مصر وامتداداتهما. فعلى الرغم من التمشدق الزائد لهذه البلدان بخصوص الحريات وحقوق الانسان، إلا أنها عجزت عن اتخاذ موقف واضح مساند لإرادة الشعب في هذه الانتفاضة العارمة الواضحة. فالنوع القائم من الأنظمة العربية الحالية ضروري لهذا الغرب الامبريالي، بما يجعل سقوطها ومجيء حكومات وطنية، حالة مضادة للمصالح الاميركية الصهيونية في المنطقة «في الأنباء أن الدولة الصهيونية حثت دولاً غربية على مساندة حسني مبارك في مأزقه الحالي». لذلك يمكن اعتبار حالة الانتفاضة الشعبية المستمرة في البلدان العربية المختلفة، هي محاكمة للنظام العربي الرسمي أينما كان، وفضح لتماهيه مع المصالح الأجنبية في اقطاره الى درجة العمالة، وتفريطه في الشعب ومقدراته من أجل مصالح نخبوية محدودة الدائرة. ولا يعتبر النظام السوداني استثناءً من هذه المنظومة إن لم يكن نموذجاً صادقاً لها، فعلى الأقل لم تقدم تلك الأنظمة على تمزيق أقطارها من أجل عيون أميركا. ٭ أما الأهم فهو القاسم المشترك الأعظم بين الجماهير في مختلف اقطار الوطن العربي، حيث مثل الانشداه والانشداد للشرارة التي انطلقت من تونس، دليلاً عملياً لوحدة الشعور والوجدان القومي، ودليلاً لوحدة المصير القومي المشترك. فقد تردد بيت أبي القاسم الشابي: إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر في كل بيت عربي، قبل أن يردده أهل تونس. وأكدت موجة الانتفاضة العربية من ناحية، وحدة النضال العربي من أجل الحرية والكرامة، ومن أجل العيش الكريم، ووحدة النضال ضد الامبريالية والصهيونية وضد عملائها في المنطقة. وسوف تفضي هذه الانتفاضة في مداها النهائي إلى تغييرات كبيرة في الخارطة السياسية على مستوى الأقطار العربية، خاصة مع تمركز موجة التغيير في مصر بثقلها الشعبي وتاريخها النضالي ودورها الحاسم، حيث يتوقع أن تلقى بتأثيراتها الواضحة على مجمل الأنظمة القائمة الآن في المنطقة، وهو ما نلحظه من ردود أفعال مرتبكة بين هذا الحاكم وذاك تفيد بأن الكل بدأ يتحسس كرسيه. وسوف تفتح هذه الانتفاضة صفحة جديدة وعصراً جديداً هو عصر الجماهير.