في سؤال لإحدى الصحف اليومية عن طول غياب مولانا السيد محمد عثمان الميرغني عن السودان في رحلته الأخيرة، كان رد السيد الميرغني رداً عاطفياً مؤثراً حينما ذكر بأنه قصد أن يطيل من بقائه في الخارج حتى لا يحضر ولا يشهد نتائج الاستفتاء التي أدت إلى انفصال الجنوب، والتي كان متوقعاً لها هذه النتيجة حسبما تشير كل الدلائل السياسية التي كانت قائمة في ذلك الوقت. وأنا لا يخالجني أدنى شك بأن السيد الميرغني كان صادقاً في ما أدلى به من قول، ولكن وفي رأيي الشخصي فإن الدور الذي ينتظر السيد الميرغني قد تعاظم وكبر، ويتطلب جهداً عقلانياً وجسمانياً يقوم به مولانا أكثر من أي وقت مضى. والواقع أنه ليس دوراً واحداً وإنما يتطلب القيام بعدة أدوار مربوطة بعضها بالبعض. 1- إن من أهم العمليات التي يجب القيام بها هو العمل ما أمكن لتجميع الاتحاديين وضرورة إيمانهم برسالة حزبهم، وليس بالضرورة أو على الأقل لا أعني كل الاتحاديين، لأن كثيراً منهم قد سلك دروباً لا تمكنه من العودة إلى الدرب الأصلي، ولكني أقصد في المقام الأول الحزب الاتحادي الأصل الذي تتصارع في داخله عدة تيارات متصارعة ومتخاصمة حول أشياء شخصية وذاتية. والغريب في الأمر انه كلما كثرت النداءات لمولانا الميرغني ليقوم بعمل قومي يبتغي تقويم المسار القومي والمحافظة على ثوابت بلادنا، يقوم نفر من هؤلاء المتعجلين بتحديد المواقع الوزارية والسلطوية ويحجزون لأنفسهم مواقع مرموقة في السلطة. وهو أمر قد فطن إليه بعض من قيادات المؤتمر الوطني، وأخذت تستغل كل هذا لتحويل أي رأي قادم من الاتحادي الديمقراطي ليصب في ما تحب وتشتهي، وهم لا يعلمون أن المؤتمر الوطني هو صاحب الحاجة الماسة لجهود قومية مثل جهود السيد الميرغني الذي دائماً ما يتوقف لسانه عن الخوض في ما لا يفيد مصالح الوطن أو العباد. وأنا أرجو من فوق هذا المنبر أن تتجمع كل العناصر التي تؤمن بالقومية السودانية داخل الحزب الاتحادي الديمقراطي التي تؤمن بأن مصالح السودان فوق كل مصلحة، وأرجو أن تتجمع هذه العناصر وتلتف حول السيد الميرغني لتقديم مشاريع سياسية وبرامج وطنية تنقذ بلادنا مما هي فيه، ومتى ما تم ذلك فسيكون من السهل واليسير لكل طالب سلطة مؤهل الحصول عليها والوصول لها، وهي كلمة أوجهها لكل الاخوة الاتحاديين ليقوموا بدورهم القومي كاملاً. إن ما ذكره مولانا السيد الميرغني عن الجنوب لم يأتِ من فراغ، فالرجل كان صديقاً حميماً للقائد المرحوم جون قرنق، كما أن صداقته امتدت إلى كل قادة الحركة الشعبية، وبهذا يستطيع مولانا أن يقوم بتهيئة الاجواء الحميمة بين الشمال والجنوب. لقد لاحظت أن بعضاً من الأصوات في الشمال وفي الجنوب تحاول جاهدة ما أمكن ذلك تعكير صفو العلاقة التي بدأت جيدة للغاية عند إعلان نتيجة الاستفتاء. وظننا جميعاً أن هذه العلاقات ستكون فاتحة خير لكل من دولة شمال السودان وجنوب السودان. وهذا أمر يجب أن نعيه، ونذكر بأن دولتي الشمال والجنوب كلاهما مكمل لبعض. وأنا أناشد مولانا السيد محمد عثمان الميرغني وأقول إن هذه المواقف المتعمدة لخلق الفتن بين الشمال والجنوب يجب الاهتمام بها، ووضعها في المكان المناسب في سلة المهملات، لأنها ان سارت بهذه الطريقة فإننا نتوقع بروز جو عدائي بين الشعبين قد يؤدي إلى اعادة الشمال والجنوب سيرتهم الأولى، ومن أوجب واجبات القيادة في كل من البلدين وقف التصريحات التي تصدر عن الرسميين هنا وهناك، لأن هذه التصريحات هي الشرارة التي توقد نيران الخلافات، كما نرجو أن يهتم مولانا بالصحف المحلية واجهزة الاعلام المختلفة لوقف الاثارة ونشر الاخبار التي تؤدي إلى انتشار سوء العلاقة بين البلدين. إن السيد الميرغني أهل لتحمل هذه المسؤولية، ولم يدر بخلدي قط انني قد اثقلت عليه، وأناشده «وهو شيال التقيلة» أن يقتحم هذه الآفاق ويعمل على ازالة آثار كل جفوة بين الشمال والجنوب أولاً، كما أناشده العمل الدؤوب لتوفيق أحوال القوى السياسية في الشمال، توفيقاً يمكن من الوصول إلى حكم يرتضيه الجميع. لقد سمعنا في الأيام الأخيرة كثيراً من الأصوات من بعض القادة السياسيين التي تركن إلى حصر وتعديد مشاكل السودان، دون التطرق إلى مقترحات لحلها. وهو أمر تسبب إلى حد كبير في هذا الركود السياسي الذي نراه الآن من ناحية القوى الوطنية المختلفة. ونعتقد أن ترديد وحصر مشكلات السودان في نقاط معددة دون التطرق إلى طريقة حلها من القادة الذين يسلكون مثل هذا السلوك ويرون أنه الوضع الأمثل لحلها، لا يفيد كثيراً، بينما واقع الحال يقول إن زعماء هذه الاحزاب مطلوب منهم التداعي للوصول إلى مكان آمن يمكن أن تناقش فيه هذه المشكلات لحلها، وأن حصرها بطريقتهم الحالية معناه أنهم لا يريدون لها حلاً أو دراسة قومية متأنية. وأنا اعتقد أنهم حينما يضعون مشاكل السودان مجردة يقصدون بهذا كشف عورات الحكومة أو محاربتها اعلامياً. وليصدقني الجميع الذين يعملون في الحقل السياسي أن الوقت ليس مناسباً للمؤامرات والمناورات السياسية، والمنطقة تشهد تغيرات جذرية، وعلينا جميعاً أن نعيها وتعيها كل الاحزاب بما في ذلك المؤتمر الوطني. هل نودع وزارة الري في يوليو القادم: جاء في صحيفة (السوداني) بأن قراراً قد اتخذ بحل وزارة الري، وتكليف وزارة الزراعة بمسؤولية ادارة المياه، مع تكليف السيد وزير الري ليكون مستشاراً لرئيس الجمهورية لشؤون الري. حسناً فإني كنت أنوى هذا الأسبوع الحديث عن قتيل قتل بضرب «الصرم» إلى أن فارق الحياة وأعني بذلك مشروع الجزيرة الذي يبحث عنه أهله في كل ربوع المنطقة فلم يجدوه، ولكنني آثرت أن أكتب عن قتيل آخر في طريقه إلى مشنقة وزارة الزراعة. وقبل أن أخوض في هذا الموضوع فإن تبعية الري للادارة الزراعية لمشروع الجزيرة هو أمر قديم، ولاقى صاحبه كثيراً من عدم الاستحسان حينما اقترحه، وأعني بذلك أن الأخ الدكتور حسن الطيب الحاج حينما عين محافظاً لمشروع الجزيرة في أوائل الثمانينيات، كان يرى ان تؤول ادارة المياه في الري إلى الادارة الزراعية في مشروع الجزيرة، وكان كاتب هذه السطور يعمل مديراً لقسم التحاميد، وكان أول المعترضين على اقتراح الأخ الدكتور حسن، وقد قابلته لأشرح له وجهة نظري في هذا الأمر، والرجل كان ديمقراطياً للحد البعيد، وكان حريصاً على مصلحة مشروع الجزيرة لحد أبعد، فاقتنع بالاعتراضات ولم ينفذ تبعية ادارة شؤون المياه للادارة الزراعية لمشروع الجزيرة. والأمر الآن يختلف اختلافاً كبيراً، إذ لا ادارة زراعية في مشروع الجزيرة والمناقل، وأصبح المشروع «طلق» وفي الأسبوع القادم كما أسلفت سأتحدث عن مأساة مشروع الجزيرة، وآثرت أن أتحدث عن مشكلة تبعية ادارة مشروع الري لوزارة الزراعة باعتبار المثل السائر «الحي أفضل من الميت». ونحن في مشروع الجزيرة كنا لصيقي الصلة بالاخوة الذين يعملون في الري بود مدني، وكانت تربطنا بهم أوثق الصلات وأسمى صور التعاون، ولم يكن الأخ الدكتور كمال علي وزير الري الحالي معروفاً لدى معظم العاملين بمشروع الجزيرة من غير موظفي الري، لأنه كان يعمل في صمت شديد في مرفق من أهم المرافق، وهو الاشراف على اتفاقية مياه النيل، وكان مكتبه بالخرطوم من جانب السودان، وكان حريصاً جداً على صلاته بإخوته في دول المنبع. وقبل سنوات الجفاف التي ظهرت أخيراً لم نكن نسمع بأية مشكلات بين دول الحوض. ولولا وجود الأخ الدكتور كمال في هذا الموقع لبرزت خلافات كثيرة في السنتين الاخيرتين، حيث الجفاف وندرة الامطار قللت من الوارد في حوض النيل، إلا ان المشكلة انتهت بسلام بفضل جهود الأخ الدكتور كمال الذي لولاه لتأزم الموقف كثيراً، ومازلنا نحن نرجو من السيد الرئيس الابقاء على كمال بوزارته كاملة، لأنه مع العبث الذي حدث في مياه مشروع الجزيرة في الايام الاخيرة لولا وجود الأخ كمال لحدثت كثير من المآسى في ري المحاصيل المختلفة. واستطاع الأخ كمال تحت مسميات عدة في ادارة المياه في الجزيرة أن يصل بمستوى الري بالمحاصيل المختلفة الى درجة لا بأس بها. أنا لا أعلم من المسؤول عن مياه الري الآن، ولكن الذي أسمعه سيئاً يدعو إلى الحزن، لأن معظم الترع خصوصاً في المناقل لم تجد من يغذيها بمياه الشرب على الرغم من الأوساخ القاذورات الموجودة في الترع. وأنا اعتقد أن معظم أهل غرب الجزيرة يقفون على ضفاف الترع الفارغة وهم يرددون: «العير في الصحراء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول» إنني أرجو من كل الإخوة المهتمين بمشروع الجزيرة والري فيه، أن يكتبوا عن هذا الموضوع المهم والحساس، ويوضحوا بكل أمانة أن إدارة الأخ كمال علي رغم كل السلبيات التي وضعت في طريقها، أدت إلى نجاح بعد البقع التي انتجت في الجزيرة. ونتمنى أن يتحدث المختصون في هذا الأمر، لأنني أؤمن ايماناً قاطعاً بقوله تعالى «وفوق كل ذي علم عليم» صدق الله العظيم. كلمة لا بد منها: إلحاقاً لما كتبته في الأسبوع الماضي عن الأخ الشيخ الدكتور حسن الترابي، فإنني لم أحاول الدخول في متاهات قانونية أجهلها كل الجهل، ولكنني قصدت أن أوجه نداءً شخصياً إلى الأخ الرئيس عمر البشير بالتوجيه باطلاق سراح الدكتور حسن، للأسباب التي ذكرتها، ومازلت أكرر رجائي للأخ الرئيس باصدار مثل هذا الأمر الذي سيقود ويساعد في لم الشمل. والله الموفق.