ب. علي شمو ، النور أحمد النور ، محمد الشيخ في سرادق العزاء وسافر من غير وداع.. قالها عبد الحليم حافظ الذي كان يعشقه ويعشق ام دنيته.. كان يحب ام الدنيا.. مثلما كان يحب ارض النيلين.. كان يعشق اللغة العربية الفصحى.. كان يهتم اكثر منا «بالهمزات» و«الفاصلات» و«الاقواس». كان يسألنا عما يكتبه.. رغم علمه ان ما يكتبه لا يحتاج لرأي منا.. كان دقيقاً.. لا يفوت شاردة ولا واردة من شواردنا في التصحيح.. كان لا يغضب حينما نخطيء في عموده.. او مادته.. وحتى لا يجعلنا نقع في الاخطاء… كان يصر على مراجعة ما يكتبه معنا.. ثم يعود ليقرأ ما يكتب مرة اخرى بعد الطباعة.. ينقح.. ويعيد.. ويزيد.. وينقص.. يخفض.. ويعلي من الفقرات والجمل.. حتى يصبح العمود «متماسكا» او كما يقول لنا دائم «العمود متماسك».. رغم علمه كما قلنا بأن عموده متماسك… ٭ سافر من غير وداع.. لم يقل لي وداعاً حينما اعتكف في منزله نتيجة للمرض.. لم يقل لي وداعاً حينما شد الرحال الى ام الدنيا.. حيث مهبط ما يهوى وما يحب.. افرحنا الزميل مجذوب حميدة وفرح قبلنا، قبل وفاة البطري بايام بأنه بدأ في الاستجابة للعلاج.. ولكن فرحتنا لم تدم طويلا.. فقد اخذ الله تعالى وديعته.. وصعدت الروح الى بارئها.. واذا جاء الاجل فلا هم يستقدمون ساعة ولا يستأخرون..! احببناك.. لانك لم تكن فظا غليظ القلب.. فقد كنت نسمة هواء باردة في ظهيرة يوم غائظ.. لم نرك يوما منفعلا.. وهائجا.. لا تحب الشجار.. لا تحب ناقر ونقير.. يعتصرنا الحزن والألم على فراقك.. لانك لم تكن رئيسنا.. ولم تكن مديرنا.. لم تبطرك المناصب.. لم تتعال علينا حينما تسنمت رئاسة التحرير في الصحافة.. ولا تتبعت خطواتنا وغيابنا حينما اصبحت مديرا عاما للصحافة.. بل كنت اخا وصديقا وزميلا.. بل لم تتخل عن «عوايدك» في استشارتنا رغم انك اعلى مكانا وافضل كلمة.. فيا لك من متواضع. ٭ قبل مرضه جاءني وقال لي انه تمت دعوته لكتابة عمود رياضي في احدى الصحف الرياضية، وسماها لي.. قلت له لن تستطيع ان تواصل معهم.. ستجلب لك الكتابة في هذه الصحيفة اعداء لك .. ليس جددا بل اصدقاؤك ومعارفك.. قال هي تجربة ويريد ان يخوضها وانه سيكتب بحيث لا يسبب ضررا لاحدهم.. وان العمود نفسه من عنوانه يحمل عدم الحقد على احد.. فقد اسماه «صافية لبن».. ورغم نصيحتي له الا انه واصل الكتابة.. ولكنه توقف لانه لا يستطيع ان يتناقض مع نفسه.. ولا يريد ان «يربي» له اعداء من اصدقائه.. الذين لاموه وكاد الود بينهم ينقطع.. فرغم اختلافنا في الميول الرياضية، الا انه لم يكن يعير الامر التفاتة.. مثل كثير ممن نعرف.. كان يشركنا في كل الامور.. كان يداعبنا حينما يخسر الفريق الذي نشجعه.. ونفعل الشيء نفسه حينما يخسر فريقه.. كنا نصرخ ونهتف ونصرح بفرحنا لهزيمة فريقه في صالة «الصحافة».. لم يكن «ينهرنا» ولا يستعمل «سلطاته» باغلاق التلفاز.. خاصة حينما خسروا بالخمسة.. كانت ايام «الصحافة» تلك جميلة ورائعة لدرجة انك لا تعرف من هو رئيس التحرير من المحرر من الموظف العادي.. من المدير.. من الخفير.. ذكرياتنا معك كثيرة.. واياديك البيضاء معنا لا تحصى ولا تعد.. وتعاملك معنا ومع غيرنا كان «غير».. وسافر من غير وداع.. ٭٭ كان يحب الشعر.. وكثيرا ما كان يستشهد به فيما يكتب.. وكان دائما يختار الاشعار الجياد.. لذا سأهديه هذه الابيات من كلمات نزار قباني تعبر عما يجيش في دواخلي حيال فقدنا له: يسمعني حين يراقصني كلمات ليست كالكلمات يأخذني من تحت ذراعي يزرعني في إحدى الغيمات والمطر الأسود في عيني يتساقط زخات زخات يحملني معه يحملني لمساء وردي الشرفات وأنا كالطفلة في يده كالريشة تحملها النسمات يحمل لي سبعة أقمار بيديه وحزمة أغنيات يهديني شمسا يهديني صيفا وقطيع سنونوات يخبرني أني تحفته وأساوي الاف النجمات و بأني كنز وبأني أجمل ما شاهد من لوحات يروي أشياء تدوخني تنسيني المرقص والخطوات كلمات تقلب تاريخي تجعلني «رجلا» في لحظات يبني لي قصرا من وهم لا أسكن فيه سوى لحظات وأعود أعود لطاولتي لا شيء معي إلا كلمات ٭٭ وقالها عبد الحليم: ومنين نجيب الصبر يا أهل الله يداوينا؟ وسافر من غير وداع فات في قلبي جراحه دبت في ليل السهر والعيون ما ارتاحوا ومنين نجيب الصبر يا أهل الله يداوينا؟ اللي انكوى (بالفراق) قبلينا يقول لينا وسافر من غير وداع ولو مريت في طريق مشينا مره فيه أو عديت في مكان كان لينا ذكرى فيه ابقى افتكرنى .. حاول تفتكرنى دى ليالى عشناها .. ابداً مش حنساها على بالى يا حبيبى .. على بالى ايام وليالي على بالى ليل ونهار وانت على بالى.. ٭٭ بالطبع فان البطري على بالنا ولن ننساه.. رغم ان النسيان في حد ذاته نعمة من النعمة.. حتى لا تعيش حياتك كلها حزينا على احبابك واصحابك واهلك واعزائك.. فكلنا يا بطري على فراقك لمحزونون… ولكننا لا نقول الا ما يرضي الله.. وإنا لله وإنا إليه راجعون..