في حي الشجرة وبجوار السكة حديد وشارع الاسفلت الجديد، لاح لنا منزلها من على البعد بطوبه الاخضر اللبن والحصير الذي يغطي غرفة الضيافة.. التقينا بها لنقف على معاناة جنوبيي الخرطوم سواء الذين رجعوا او اولئك الذين اثروا البقاء، فقالت لنا أقروت شول: «ولدت في ابيي، وحضرت الى الخرطوم وانا صغيرة جدا في نهاية ثمانينيات القرن الماضي عندما كان ابي ميكانيكيا وسائق جرارات، ودرست في اساس وثانوي جبل اولياء». وكشفت اقروت ان فترة طفولتها التي عاشتها في الشمال جميلة ومرحلة مهمة وممتعة، وكان لديها صديقات جنوبيات وشماليات في المدرسة، وكانت تشارك في المسابقات والدورات والبرامج المدرسية، وكانت لاعبة أساسية في فريق الكرة الطائرة للمدرسة. وقالت أقروت: «طيلة فترة الدراسة كنت اجالس صديقاتي الشماليات في كنبة واحدة، ونذاكر الدروس عصرا ومساءً في منزل إحدانا، وحتي في السكن كنا متواصلين مع بعضنا، ونتشارك كل المناسبات الاجتماعية من أفراح او مآتم». وبنبرة حزينة تقول أقروت: «كانت حياتنا بسيطة وجميلة الى ان طرح موضوع الانفصال وتحولت حياتنا الى جحيم»، ونزلت دمعة من عينيها وتهدج صوتها وصار أجش من شدة انفعالها، وقالت اقروت «لا يهمني النقاش حول الانفصال وليست لي مصلحة، ولا يهمنا رأي القادة الشماليين او الجنوبيين لانهم بعيدون عن معرفة هموم البسطاء». واوضحت اقروت قائلة: «كان من المفترض طرح الانفصال بصورة هادئة ودراسة نتائجه».. وبصوت حزين قالت «الانفصال لم يحل المشكلة بل زادها تعقيدا وادخل الناس في احقاد لم تكن موجودة. واثناء سيري في شوارع الخرطوم احس بكل الناس تنظر نحوي بصورة مستغربة ومستفزة وكأنني ارتكبت جريمة، ودون مراعاة لحالتي الانسانية، ويتوجهون بالحديث نحوي لماذا لم تغادري حتى الآن». وافادت اقروت انهم طيلة الفترة السابقة منذ التسعينيات وحتي بداية نيفاشا لم يكونوا يعانون من أية مشكلات ويعيشون في امان مع جيرانهم الشماليين، واكدت اقروت أن كل شخص حر في الذهاب الي الجنوب او البقاء في الشمال حسب ظروفه، وعن اختيارها تقول اقروت «الجنوب لا توجد به مدراس ولا مستشفيات ولا مصانع، فلماذا اذهب الى مكان يضيع فيه اولادي، وهناك قصص كثيرة عن وفيات الاطفال بسبب امراض الاسهال وسوء التغذية». وكشفت اقروت عن معاناة مواطنيها في منطقة ابيي من دخول الانفصال حيز التنفيذ بحكم الزواج المختلط علي مر السنين، ما بين دينكا نقوك والمسيرية، وان سياسات حكومة الخرطوم وجوبا خلقت المشكلات ولم يعودوا كما كانوا في سابق الايام، وقالت اقروت: «يجب على حكومتي الشمال والجنوب رفع يدهما عن قضية ابيي ويتركوننا مع بعض»، وصمتت لحظة وواصلت حديثها قائلة: «يمكن تقسيم الارض لكن هل يمكن تقسيم الاطفال بين عالمين؟» ورأت اقروت حل سكان ابيي بمنحهم الجنسية المشتركة وترك الخيار لهم في تحديد المكان الذي سيعيشون فيه. واوضحت اقروت انها تواجه معضلة في اتخاذ القرار النهائي بالعودة او البقاء، وقالت «قد يذهب جزء من العائلة ويبقي الآخرون لحين انجلاء الاوضاع في الجنوب، وهنلك كثير من اهلنا مترددين وعاجزين عن اتخاذ القرار النهائي». واكدت اقروت انها تشعر بأن الاوضاع يمكن ان ترجع كما كانت في العيش المشترك .. تركناها خلفنا والشمس أوشكت المغيب باشعتها المهيبة الموحية بالشكوك والظنون، وتسآلنا تري ستعود الحياة يوماً الي طبيعتها دون تدخلات الساسة وامراء الحرب والسماسرة ؟ وفي مدينة امدرمان وعلى امتداد المدينة العريقة والمكتظة بالسكان، وفي منطقة امبدة الحارة «42» التقينا بميري فيليب لادو التي اكدت انها تعيش في الشمال منذ 22 عاما وانجبت فيها خمساً من الابناء، وقالت ميري: «عشنا في احترام مع اهلنا الشماليين ولم تكن بيننا أية مشكلات ونساعدهم في مناسباتهم ويشاركوننا في افراحنا واتراحنا، وكانت الفترة من اخصب فترات عمري». وكشفت ميري عن عمق مأساتها بعد قرار اخلاء العمال الجنوبيين من وظائفهم وطرد ابنائها من المدراس، وقالت ميري وهي تغالب دموعها «ليس لي اب او ام يساعدوني، ولا اعرف ماذا افعل ومستحقاتنا لم نستلمها حتى الآن». والتقينا بميري الوق التي قالت: «اعيش في الشمال منذ 25 عاما وانجبت جميع ابنائي الستة هنا»، واوضحت ميري ان ابناءها يجلسون الآن في المنزل وحرموا من التعليم، من بينهم واحد في الصف الثامن، وازدادت معاناتها بعد وفاة والدهم وتم الاستغناء عن خدمتهم المدنية في الجامعات. ومضينا في طريقنا وتركناها مع نظرات ابنها ذي التسع سنوات وقد فقد فرصة مواصلة تعليمه، ولم يسعه الوطن الام او الوطن الجديد.