بالأمس مضى الجنوب لحاله، عزف نشيده ورفع علمه واحتفل أهله وأصبح بذلك الدولة رقم «193»، وبهذه الخطوة النهائية التي خطت آخر سطر في اتفاقية السلام الشامل، لم يبق لنا ما نقوله سوى أن نهنئ إخوة الأمس في الوطن والمصير بميلاد دولتهم ونتمنى لهم من أعماق القلب الاستقرار أولاً ثم التوافق والاتفاق والتعاضد لبناء دولة ناجحة ومتقدمة، وقبل ذلك أن تتمكن حكومتهم الجديدة مع حكومتنا من تجاوز ما تبقى من قضايا عالقة شاءت لها المماحكات أن يدور التداول حولها بين دولتين بعد أن تعسر حلها بسبب التعسف في إطار الدولة الواحدة.. علينا الآن أن نعود لحالنا ونلتفت لأمرنا وما ينتظرنا من تحديات جسام تتطلب تغيير الكثير في العقليات والمناهج والسياسات والقوانين التي أوردت البلاد هذا المآل المؤسف ولم تورثه غير الجدل والهرج والمرج والاختلاف والتناحر والتنابذ، هذه الأدواء التي هبطت به الى قاع الامم والأوطان في كل شيء يقاس بالمعايير الدولية، وكل ذلك يتحمله بالدرجة الأساس الذين حكموه وتحكموا في مصيره ومسيره لأكثر من عقدين من الزمان كانت كافية لو صلح الحاكمون ورشدوا واسترشدوا بمقومات الحكم الرشيد العادل والديمقراطي والنزيه أن تقفز بهذه البلاد الى منصة الكبار التي هي قمينة وحقيقة بها لولا ولولا ولولا ولكم ان تعدوا ما شئتم من «اللولوات»، ولكن رغم الآلام والأسقام والمحبطات والمثبطات وضيق الامل، دعونا ننتظر لنرى ما ستفعل «ريمة» هل ستأتي بالجديد المفيد أم ستعود لعادتها القديمة.. غير أن أول ما لفت نظري وشد انتباهي وأنا أتدبر حال البلد بعد ان استدبر منه الجنوب وولى الادبار نافذاً بجلده، هو هوية سكان منطقة أبيي من الدينكا، فالحكومة قد سارعت بشكل يدعو للريبة والاشتباه لاخلاء كل وظائفها من الدرجات القيادية والى السعاة والعمال من أي عنصر جنوبي على السحنة والاسم دون استثناء، كما سارعت بنفس الوتيرة المتوترة الى ادخال تعديلات سريعة على قانون الجنسية حتى تتمكن بموجبها من نزع الجنسية من أي جنوبي بلا استثناء، ولكن نست الحكومة وهي في غمرة استعجالها المريب هذا أنها بهذه الاجراءات المستعجلة وضعت بعض من تدعي أنهم من رعاياها في خانة «البدون، والبدون كما هو معروف هم المجموعات السكانية عديمة الجنسية وأشهرهم في دولة الكويت والآن أضافت اليهم حكومتنا السنية دينكا أبيي، فالحكومة وقياداتها الحزبية ظلوا في الآونة الاخيرة وما انفكوا يعلنون بصوت زاعق ان أبيي شمالية وبالتالي سكانها جميعاً شماليون بمن فيهم لوكا بيونق ودينق الور وغيرهم من قيادات الصف الأول بالحركة الشعبية دعك من بقية العامة، ولكن عجلة الحكومة وشفقتها لانفاذ اجراءاتها الاخيرة كشفت سوءتها سواء كانت جادة في أمر شمالية أبيي أو أنها كانت فقط تناور، فقد قدر الله لها ان تنكشف حين أخلت وظائفها من الجنوبيين قاطبة ولم تستثن منهم حتى أبناء دينكا أبيي الشمالية ومرة اخرى حين نزعت جنسيتها نزعتها حتى من أبناء أبيي من الدينكا الشماليين حسب زعمها، وما يحز في النفس هنا هو ان الحكومة عندما اقبلت بنشاط وهمة على الاخلاء والنزع كانت هي نفسها متخمة بالعديد من القيادات في حزبها والدستوريين في مناصبها الرفيعة الذين يستحقون قبل غيرهم نزع جنسياتهم الاجنبية، البريطانية والامريكية والكندية وغيرها، وليس ذلك فحسب بل أن بعضهم ظل وفياً لانتمائه الاجنبي مثل الدكتور مصطفى عثمان اسماعيل الذي قال مفاخراً امام توني بلير في زيارة له للبلاد وكان وقتها الاول وزيرا للخارجية والثاني رئيساً لوزراء بريطانيا انه ظل يدلي بصوته باستمرار لصالح حزب العمال في الانتخابات البريطانية.. فتأملوا هذا الحال المقلوب.. يانكي في الحكومة و»البدون» في أبيي..