كثيراً ما نعيب السياسة التي تنتهجها الولاياتالمتحدةالامريكية تجاهنا أو تجاه الدول العربية والإسلامية - مثل ايران والعراق - ونصفها بسياسة الكيل بمكيالين فهى سياسة تغض الطرف عن كل ما تفعله الحكومة الاسرائيلية بالشعب الفلسطينى من احتلال وقتل وتنكيل وتشريد وبالشعوب الاخرى فى لبنان والجولان وسوريا ولكنها أي أمريكا وحلفاءها الغربيين تتصدى لصدام حسين وحكومته بالإعدام دون وجه حق والغزو الخارجى ولايران بالحصار الاقتصادى والدبلوماسى لمجرد انها تعمل لامتلاك مفاعل نووى للاغراض السلمية فى حين لا تسمح الولايا? المتحدةالامريكية لكائن من كان أن يتطرق للسلاح النووى الاسرائيلى ومفاعلاتها التى تنتشر كالنار فى الهشيم فى الاراضى المحتلة. سقت هذه المقدمة لكى ابين ان الولاياتالمتحدةالامريكية والدول الغربية ليست وحدها التى تكيل بمكيالين وانما نحن فى السودان ايضاً نمارس ذات النهج فى العلاقات الدبلوماسية والتعامل تجاه الولاياتالمتحدةالامريكية مقارنة مع غيرها من الدول الافريقية أو العربية التى صارت علاقتنا معها تتطور الى الاحسن أو تتردى الى الاسوأ - بكل أسف بحسب موقف هذه الدولة أو تلك من المحكمة الجنائية الدولية وقرارها المتعلق بتوجيه اتهام للرئيس عمر البشير بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية فى دارفور وهذه فى حد ذاتها صارت مثل?الجرس المعلق فى رقبة القط ما دق هذا الجرس ولفت الانظار وأقام الدنيا ولم يقعدها .. وطالما نحن بصدد الحديث عن الكيل بمكيالين والمناسبة هي قيام محكمة كينية باصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس عمر البشير وطالبت السلطات الكينية بانفاذ المذكرة واعتقاله استجابة لأمر الاعتقال والمذكرة التى اصدرها مدعى المحكمة الجنائية الدولية لويس اوكامبو وايدها قضاة المحكمة الدولية وذلك استناداً الى كون كينيا عضواً فى المحكمة الجنائية الدولية ويتوجب عليها الاستجابة لقرارات المحكمة التي تصدر عنها في حق الأشخاص المطلوبين لديها. وكان رد فعل وزارة الخارجية السودانية على قرار المحكمة الكينية أن أصدرت أمرا للسفي? الكينى بالخرطوم بمغادرة البلاد فورا خلال 72 ساعة ... ما يعنى قطع العلاقات الدبلوماسية بين السودان وكينيا .. لوكانت هذه المذكرة التى صدرت عن القضاء الكينى أصدرها القضاء الامريكى أو القضاء البريطانى أو الهولندى حيث مقر المحكمة الجنائية الدولية - ماذا يمكن ان نرى ونسمع من ردة فعل من قبل وزارة الخارجية السودانية ؟كل ما يمكن حدوثه أن يقوم وزير الخارجية أو وكيل الوزارة بدعوة اتحاد المحامين السودانيين أو الاتحاد العام لعمال السودان كما حدث في السابق أو تجاهل هؤلاء جميعاً والبحث عن محام دولي له شهرة وصي? في هذا المجال لكى يترافع نيابة عن السودان لمناهضة القرار القضائى الامريكى أمام المحاكم الامريكية والأوربية كما حدث عند قيام الرئيس الامريكى الاسبق بيل كلنتون بإتخاذ قرار رئاسي من جانبه بتوجيه الصواريخ الامريكية لضرب مصنع الشفا بمدينة الخرطوم بحري في عام 1998م بحجة تذرعت بها الإدارة الأمريكية لضرب المصنع وكانت الحجة أن المصنع الذي تعرض للغارة الجوية الأمريكية مملوكا لاسامة بلادن ويقوم بانتاج الاسلحة النووية. وقام المالك الفعلي للمصنع برفع دعوى ضد الحكومة الامريكية أمام القضاء الأمريكى مطالباً بتعويضه عن ?لخسائر التى لحقت بالمصنع المملوك له وليس للإرهابي العالمي أسامة بن لادن عليه رحمة الله وقد حدث ذلك بالفعل وتم رفع الدعوي وقبول مبدأ التعويض بإعتبار ما حدث للشفاء كان خطأ من قبل الريئس الأمريكي وقتها وإدارته الظالمة.. والسبب في كوننا لم نتعامل مع القرار الكيني بذات الطريقة التي تعاملنا بها أو يمكن أن نتعامل بها مع الأمريكيين أننا نعتقد ونظن أن الولاياتالمتحدةالامريكية والدول الاوربية انظمة ديمقراطية تعددية وان الحقوق فيها لاتضيع بفضل استقلال القضاء ونظام الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائي? والصحافة هناك - سلطة رابعة -تمارس دورها تجاه المجتمع بكل شفافية وهذا هو شأن المؤسسات فى المجتمعات الديمقراطية . ولكن مشكلتنا مع كينيا وغيرها من الدول الافريقية اننا لانريد ان نفهم أو نصدق ان هذه الدول اصبحت تمارس العملية الديمقراطية وسياسة الفصل بين السلطات بذات الطريقة التى تحدث فى الغرب لاننا لا نعرف الديمقراطية الا عندما تكون فى العالم الغربي والأوربي ولا نتصور حسب واقعنا ونظامنا السياسي ان الحكومة الكينية من الممكن ان لا تكون لديها يد فى مثل هذا القرار الذى اصدره القضاء الكينى . والدليل على أن?الحكومة الكينية «بوصفها الجهاز التنفيذي» ليس لها يد أن هذه الحكومة الكينية وجهت الدعوة للرئيس البشير للمشاركة فى احتفالات إقرار الدستور الكينى الجديد والتى جري تنظيمها فى العاصمة الكينية نايروبى العام الماضى. وقد واجهت الحكومة الكينية سيلا من الانتقادات فى هذا الصدد من قبل المحكمة الجنائية الدولية ومنظمات المجتمع المدنى التى طالبت السلطات الكينية بتوقيف الرئيس البشير .. وفى اطار فهمنا للدستور الكينى الجديد وطبيعة النظام الديمقراطى لدى هذه الدولة الافريقية التى كانت «فى الماضى» جارة لنا قبل انفصال ال?نوب وكانت هي وغيرها أنظمة دكتاتورية «قبل أن تتحول للديمقراطية والإنتخابات وتقدم في سبيل ذلك ما فاق التضحيات التي حدثت في ثورات الربيع العربي سواء في الكنغو أو ساحل العاج أو كينيا نفسها» وبعد تحولها للديمقراطية التعددية كان يمكننا التصدى للقرار امام المحاكم الكينية ودحضه باعتبار أن ذلك هو الخيار الوحيد والذي لا بديل له في مواجهة مثل هذه القرارات التي تصدر عن القضاء كما اعلنت الحكومة الكينية نفسها وقالت وزارة الخارجية الكينية : انها سوف تطلب من المدعى العام الكينى مناهضة القرار الذى اصدره القضاء الكينى والد?ع أمام المحاكم الكينية بأن القرار الخاص بتوقيف الريئس البشير من شأنه أن يضر بالمصالح الخارجية لكينيا خاصة ان كينيا لها مصالح تجارية واقتصادية واسعة مع الخرطوم ولا تستطيع تجاوز موقف الاتحاد الافريقى الرافض للتعامل مع المحكمة الجنائية الدولية والرافض لتسليم الرئيس السودانى لها بإعتبار ذلك أيضا خروج عن إجماع الدول الإفريقية ممثلة في الاتحاد الإفريقي. ومن المرجح ان تنجح الحكومة الكينية فى هذه الخطوة وتحتفظ لنفسها باحترام القضاء الوطنى الكينى دون المساس بمصالح الشعب الكينى الحيوية والدول الافريقية الاخرى ومن?ا السودان. وسوف تنتهي الأزمة بين نايروبي والخرطوم على هذا النحو وبالإمكان أن تنتهي على يد السودان إذا تمت النظرة للأمر نظرة موضوعية ومؤسسية فاحصة من جانبنا وقمنا بالتصدي لقرار المحكمة الكينية أمام القضاء الكيني بدلا من طرد السفير المسكين والذي لاذنب له.