ظل الوضع الاقتصادي بالبلاد هاجسا يؤرق مضاجع الرعاة والرعية منذ أمد بعيد ربما امتدت جذوره إلى حقبة تنسم عبق الاستقلال . بيد أن ما يعيشه الناس اليوم من غلاء فاحش ربما شكل ذروة سنام المعاناة والرهق لا من أجل الرفاه بل بغية توفير لقمة العيش الكريم تحت سقف أدنى متطلبات الحياة والإنسانية بسبب تراجع وتباطوء عجلة الاقتصاد جراء تراكم بعض المسببات والمنهكات التي تكالبت على جسد موارده الهزيلة فأوشكت أن تقضي عليها في ظل غياب رؤية واستراتيجية واضحة يتبعها تنفيذ جاد تقوده عزيمة قوية على بلوغ مرامي الاستراتيجية وتحقيق أبعاد الرؤية الحكيمة ، التي يكون بمقدورها إن أحسن تنفيذها ، خلاص الاقتصاد من وهدته ، التي صعب عليه الخروج من شراكها في ظل توافر عدة مسوغات وعوامل تضافرت وتكاتفت من أجل إقعاد الاقتصاد رغم أنف ما نملك من مقومات ، وموارد طبيعية قل أن ينافس السودان فيها قطر آخرعلى الأقل على المستوى الإقليمي عربيا وأفريقيا . فالوضع البائس الذي يعكسه حال الاقتصاد بالبلاد يفرض تساؤلا موضوعيا مشروعا قوامه لماذا لم يقو على النهوض والانطلاق ، رغم ما يمتلك من مقومات ويتوافر له من معينات ؟ فإن جاءت الإجابة عن التساؤل عاليه صادقة تكسوها الشفافية ويدثرها ثوب الصراحة ، سيكون الانطلاق بعدها حتما متاحا وبلوغ المرامي ممكنا . إذ إنه لا مستحيل تحت الشمس إن تركنا الخنوع وفارقنا دائرة الكسل وتقفينا أثر الأمم المتقدمة واستفدنا من تجارب سالفينا في دروب النهضة الاقتصادية فكم من بلاد تقل مواردها كما ونوعا عن ما نملك نهضت وقويت شوكتها بفضل التخطيط السليم والعزيمة القوية على التغيير وتخطي الصعاب فهل تعوزنا هذه المقومات ؟ للأسف إن واقع الحال يقول نعم تعوزنا وإن تشدقنا ملء أفواهنا بها ، فالبلدان لا تبنيها الشعارات والأمم لا تنهض بالأقوال بل بالتخطيط والعمل . فبالرجوع إلى عهد الإنقاذ الأول حيث تحتفظ ذاكرة كل مواطن كيف ملأت أرجاء الأرض ضجيجا بشعارها العالي (شعارنا العالي بيرفع والعالم كلو بيسمع فلنأكل مما نزرع ولنلبس مما نصنع) فاستبشر الجميع لإيمانهم الراسخ بألا حاجة مع الإنتاج . غير أنه من أسف تبددت الآمال ، وتبخرت الأحلام ، فلم يحصد الشعب سوى المزيد من العنت والضنك وشظف العيش ! رغم التوسع المشهود ، والتمدد غير المنكور في إرساء بعض البنى التحتية العظيمة ، على مستوى الجسور والطرق والسدود ومشاريع حصاد المياه . بيد أنه للأسف الشديد لم يتفيأ المواطن البسيط المعني الأول بإنشائها والمقصود الأخير بتأسيسها نعيمها ولم يتمتع بخيراتها جراء بعض السياسات الاقتصادية غير الحكيمة التي لهثت وراء تحقيقها الإدارة الاقتصادية ، فتضعضع الإنتاج وتراجعت عجلته عوضا عن زيادته فانسحب ذلك على باقي السلسلة الاقتصادية ، فضعف سعر صرف الجنيه وزادت الحاجة إلى الاستيراد ، وقلت فرص التصدير في ظل تمتع الخزينة العامة بموارد أجنبية مهولة من عائدات النفط قبل انفصال الجنوب وعقد إتفاقية السلام الشامل التي عاش في كنفها السودان قبل الانفصال خمس سنوات عقد الجميع الأمل في أن تكون خمس سمان غير أنها تحولت بفضل قصر الرؤية الاقتصادية إلى عجاف فلا زينها الإنتاج ولا ترصعت بمشاريع التنمية . وقد يجد البعض العذر للإدارة الاقتصادية قبل اتفاقية السلام لجهة استنزاف الحرب للموارد وعوائدها غير أنه لا أحسب ان ذا بال يجنح لإيجاد العذر لها إبان الفترة الإنتقالية إذ كان حري بها الالتفات والعمل على شحذ الهمم للنهوض بمشاريع الإنتاج الحقيقي لاسيما على صعيد الإنتاج الزراعي بشقيه (النباتي والحيواني) استغلالا لكم الميزات النسبية التي يتمتع بها غير أنها مضت في إسبال ثوب غي تبديد الموارد بعيدا عن دائرة الإنتاج الحقيقي فتراجعت عجلته وتدهورت المشاريع الإنتاجية التي على رأسها ومقدمتها شيخ المشاريع الزراعية مشروع الجزيرة العتيق ومن باب أولى لا غرو في أن تتبعه سائر المشاريع الأخرى التي لم تجد معها محاولات الدفع السياسي المتمثل في ابتداع البرنامج التنفيذي للنهضة الزراعية التي إلى يوم الناس هذا لم يحس بأثر لها على صعيد الإنتاج الزراعي . وكذلك تراجعت عجلة الإنتاج الصناعي فلم تجد كثير من المصانع بدا من إغلاق أبوابها وتسريح عمالها في ظل ارتفاع تكلفة الإنتاج الصناعي في ظل قلة المواد الخام وارتفاع أسعارها علاوة على كم الرسوم والجبايات المفروضة عليها حيث اتخذتها إدارات فرض الرسوم وجمع الأتاوات تكئة سريعة لدر الموارد وتحقيق الربط المفروض عليها فكل من يمر بأية منطقة صناعية يلحظ مقدار التدهور الذي طالها والبؤس والصمت الذي خيم عليها فحل مكان دوران ماكينات المصانع فلا انخفضت تعرفة الكهرباء التي كانت وما زالت تشكل هاجسا وبعبعبا مخيفا للمصنعين بعد التوسع في إنتاج الكهرباء ولا هدأت فورة أسعار المدخلات فدخلت الغالبية العظمى من مصانع البلاد في بيات ليس شتويا او صيفيا بل على مدار العام واستعصت عجلة التدهور على التوقف وقالت هيهات هيهات بالرغم من تدفقات عائدات النفط المهولة التي راحت سدى دون أن يحس بها أحد في الحياة العامة و(قفة الملاح) بل ظهرت وفضلت أن تتخذ من الغابات الأسمنتية التي كللت محيا الخرطوم وكادت أن تغطي سماها دليلا ومؤشرا اقتصاديا ! وتوقع الجميع أن تعدل الإدارة الاقتصادية سياساتها واستراتيجياتها عقب انفصال الجنوب بتبني اتجاه كلي نحو ترقية الإنتاج لكن ظل الحال على منواله إن لم يزد سؤا في ظل إصرار الحكومة على التمادي في تطبيق سياساتها القديمة وقع الحافر على الحافر حيث إنها لم تستفد من تجربتها في العقدين الماضيين ولم يهد لها ترنحها ضوءا شاردا لتتبع مساره واقتفاء أثره بغية الوصول إلى بر الأمان الاقتصادي الذي لن يتأتى إلا بالإنتاج وأنى لها تحقيق غاية رفع الإنتاج والإنتاجية ووزير المالية لا يقدم إلا على اتباع أسهل السبل وأسرعها لملء غلة الخزينة العامة وليس هناك أدل وأكثر برهانا من تصريحه الأخير بأن الموازنة العامة ستعتمد 100% في مواردها على الجمارك والضرائب ! ومن عجب أنه يعلنها دون أن يطرف له جفن أو تدمع له عين على حال ملايين الغلابة الذين يكابدون ويغالبون المستحيل من أجل الحصول على لقمة عيش تسد رمقهم وخرقة لا يهم إن كانت بالية لتستر عوراتهم ومسكنا يأوون إليه مع إسدال الليل لستوره . فهل يدري وزير المالية عدد الفقراء والمعدمين بالبلاد الذين دون أدنى شك قد أعمل الفقر فيهم آلته وزادهم الغلاء وبالا على بؤسهم ؟ لا أظنه يعلم لأنه إن كان يدري لا أتصور أن يقدم على التخطيط لموازنة عامة تقوم أولا وأخيرا على الجبايات دون أدنى انتظار لأي مصدر آخر من إنتاج مورد طبيعي أو إنساني ! فكيف لوزير المالية أن يرتقي بسعر صرف الجنيه الذي وصل إلى انخفاض يحتاج إلى جهود مضنية لرفعه ليس بالشعارات والتصريحات التي ما قتلت ذبابة بل بالإنتاج ولا شيء غير الإنتاج فهذه أبجدية من أساسيات وأصول علم الاقتصاد فهل فاتت هذه النقطة على وزير المالية ؟ ولئن أصر الوزير على الاكتفاء بالضرائب والجمارك مواردا لا أستبعد ألا يجد ما يتحصله ويفرض عليه الرسوم والأتاوات من مصادر الإنتاج . فخلاصة الرأي والقول عندي أن الاقتصاد لن ينصلح حاله إلا بزيادة الإنتاج كما ونوعا وأيم الله انه لعيب كبير في حقنا أن تكون بلادنا زاخرة بما حباها الله من موارد طبيعية فيمسكنا العجز وقلة التفكير والافتقار إلى التخطيط السليم وقصر الرؤية والنظر وانسداد وعمى البصيرة عن الاستفادة منها وتسخيرها ولتكن ضربة البداية بتأهيل مشروع الجزيرة وإعادته سيرته الأولى في عامنا القادم ومن ثم الانتقال إلى المشاريع الأخرى .