٭ عبقري ذلك الزمان، تتراكم تفاصيله شجناً، تصحو بين الفينة والاخرى كنوبات المعلول ، يهزني بهمهمات رافضة للمشهد الباهت أمام ناظريه، يتململ من خيبات الزمان وإنكسار الخاطر.. وحلفا كانت صدر المحافل (شمندورة) الحواضر، تتكيء على قوائم التاريخ، تنام وتصحو على خرير النيل، تقرأ وتطالع سفر التكوين وميلاد الانسان، تتمدد في بساط السيق وتلجم الجدل العقيم، وتخرس كل مشاء بنميم، هكذا كانت (كدودة سالي) تحجينا، ضجة المكان المحشود باصطفاف النخيل وعبق التاريخ، نداء ذلك الذي ينتظر على الشط الآخر عبر الامواج، يشق هيبة الصمت والسكون، يوقظ النائمين والحالمين في ضل الضحى الممدود، همس الشراع ورزق (الحواتة) المدفون في جوف النيل.. النيل المعطاء خلد شوقاً ابدياً، اعطى وعداً بالعودة، تتمدد الصورة ويكبر الاطار. ٭ عودة الجمالة من السكوت والمحس ودنقلا، أمي تتوشح (الكربشين) وتمد يدها للخرز المنضود من خيط النور، لوحة من فرح البسطاء، يتعالى نغم الطنبور، يناجي المتأهبين للرحيل، الرحيل للامكان، الرحيل الى التلاشي، الرحيل الى مراتع الصبا في (أو انداى) و(شرتاس) وقصر الملوك بوابة التاريخ (وعتبة) السرد ملحمة كان قوامها محميد وارو موسى وحكيم ثم تناثر اريج السيرة فوجاً وعبقاً وإمتداداً ووصلاً يهز عروش النسيان ومؤامرات التغيب، فحق للذاكرة ان تحتفي، فأنا من تلك الدوحة الظليلة، أنا من هؤلاء العظماء، أنا من ذلك النبع وشماً ونوايا. ٭ (كدودة سالي) مازالت تحجينا (وتحمس) فصول الحكاية حينما يغلبنا النُعاس فتقول، من عمق الشلال يأتي الخوف المحمول في رؤية تقول الرؤية سمعنا جدلاً في الشلال، سمعنا لغة لم نألفها، رأينا بشراً غرباء تترنح مراكبهم في الشلال، تطفح زكائب البركاوي والقنديلة على وجه النيل. غضب النيل، هدير النيل- الشفق الاحمر ينفذ سهماً في أحشاء النيل، نداء يحمله الموج وصمت المكان الى كل الابعاد ( عبدون كُبلي قايبو سكري). ملحوظة: ٭ الشمندورة في اللغة النوبية تعني الفنارة التي تقام وسط البحر لإرشاد السفن. وهى عنوان لرواية لاحد الكُتاب النوبيين بمصر. محمد علي عبد الجابر حلفا الجديدة