من مؤشرات الأعمال الصحفية المتميزة، إثارتها للاهتمام والصدى الذي يرافقها،وهذا ما حققه الحديث الصحفي الذي أجراه الزميل الطاهر حسن التوم مع وزير الخارجية علي كرتي، في قناة «النيل الأزرق»،واختلف مع الزميل طارق شريف في أن الطاهر يحتكر البرامج السياسية في القناة،والصحيح أنه يحتكر المشاهد ببرامجه الحية المواكبة للأحداث والموثقة للتاريخ لأنها «مخدومة» ومعد لها بطريقة جيدة. والحديث الذي اتسم بجرأة يحسد عليها وزير الخارجية حمل إفادات صريحة، ومعلومات ثرة لم تكن معهودة من بعض المسؤولين الذين ينطقون بلغة مطاطة منزوعة الدسم، تثير أسئلة أكثر مما تقدم إجابات. كما أن كرتي لم يجامل زملاءه في الحكم من شغلوا وظائف دستورية فتحدث عن تقصيرهم بلا مواربة تصريحاً وتلميحاً، وقدم رؤية متماسكة في بعض القضايا وأفرغ غضباً مكتوماً وجد فرصة للتعبير عنه دون أن يحسب أي تكلفة سيدفعها مقابل ذلك. أول من نالته سهام كرتي دون أن يكشف عن هويته،هو الفريق صلاح قوش، عندما أقر بأن من تعاونوا في ملف مكافحة الارهاب مع الولاياتالمتحدة ،قدموا ولم يقبضوا الثمن،بل كانوا يفعلون ذلك بمعزل عن السياسيين،كما أنه لم تكن لديهم رؤية واضحة، وبذلك أخطأوا في حق البلاد. وثاني من وجدوا حظهم من التقويم والنقد اللاذع من كرتي وزير الخارجية الأسبق الدكتور مصطفى عثمان اسماعيل، عندما رد على سؤال حول عدم استخدام الصين حق النقض «الڤيتو» ضد إحالة مجلس الأمن الدولي ملف دارفور الى المحكمة الجنائية الدولية، فقال إنه ذهب شخصياً الى بكين في هذا الشأن والتقى نظيره الصيني الذي قال إن السودان لم يطلب من بلاده استخدام « الڤيتو»، وتحداهم في ذلك،واعتبر ذلك تقصيراً من وزارة الخارجية آنذاك. وثالث من لذعهم لسان كرتي،وزير الدفاع الفريق الركن عبد الرحيم محمد حسين، بشأن رسو سفينتين عسكريتين في ميناء بورتسودان،وقال إن الحكومة اعتذرت عن استقبالهما حسب طلب طهران في فبراير الماضي بعد مشاورات بين الخارجية والرئاسة ووزارة الدفاع، غير أنه فوجىء بوصولهما عبر وسائل الإعلام، وأن وزارته كانت آخر من يعلم،ورأى أن توقيت وصول السفينتين أحدث تشويشاً على موقف السودان حول عدوان اسرائيل على مجمع اليرموك،وأثار هواجس في دول الخليج. ومن الملفات التي لم يحاول كرتي التهرب منها رغم حساسيتها، العلاقة بين الخرطوموطهران، وقال إن حدود العلاقة مع إيران ليست مفهومة وغير مقنعة لدول الخليج، ورأى أن مصالح السودان مع إيران غير كبيرة والأفضل أن تبتعد عنها الخرطوم قليلا لازالة الهواجس والمخاوف الخليجية. وشكا من قضية آخر يرى أن وزارته لم تجر مشاورتها، وهو قرار طرد منظمات أجنبية من دارفور ثم شرق السودان،رغم أنه يرتبط بالقضايا الخارجية،وأنه كان ممكناً إبعاد المنظمات من دون تكلفة سياسية أو إضرار بمصالح البلاد، باعتبار أن الدول التي تنتمي إليها تلك المنظمات ستوقف أي دعم للسودان وستتبنى مواقف سالبة في المحافل الاقليمية والدولية. حديث كرتي رغم أنه كان حارقاً ،ومؤلماً،إلا أنه من الجانب الآخر كان شفافاً، وفيه احترام للرأى العام حيث إنه لم يخف الحقائق في قضايا عامة ترتبط بحياة الناس وأمنهم ومعاشهم،وكان يمكن أن يقول كلمات منمقة «ملساء» بلا أي مضمون ويدافع عن الحكومة والسلام،لكنه كان متصالحاً مع نفسه،وأميناً مع شعبه. والجانب المظلم من حديث الصراحة هو بؤس طريقة اتخاذ القرار في الدولة في شأن ملفات مهمة، ويبدو أن الحكومة باتت جزرا معزولة بلا تنسيق ومسؤولية تضامنية ،وغياب المؤسسات،كل مسؤول «يعزف منفرداً» في موقعه، يفعل ما يشاء إن أصاب صفق لنفسه،وأن أخطأ فهو اجتهاد وله أجران. من وصلتهم اتهامات وزير الخارجية مطالبون بالرد عليها لأنها صارت قضية رأي عام ومحاكمات على الهواء لا تصلح معها المداراة ودفن الرؤوس في الرمال. والخطير في الموضوع أن ما فجره كرتي من قضايا كان مسكوتاً عنها،تحول الى ضرب تحت الحزام،وتصفية حسابات عبر الكلمات والأحبار، وهو أمر ستكون له تداعيات لها ما بعدها، فدعونا (نتفرج) ونرى عسى أن ينصلح الحال.