لا أدري لماذا ينادي حزب المؤتمر الوطني بتكوين حكومة قومية أو ذات قاعدة عريضة رغم «فوزه الكاسح» بالانتخابات والذي أهّله ليكون هو الخصم والحكم، المعارضة والحكومة على طريقة «من دقنو وافتلو»، ويحيرني أيضاً سعيه الحثيث للبحث عن «إجماع وطني» بعد أن صار الشعب السوداني -عدا الجنوب- كله تقريباً مؤتمر وطني بحسب «نتيجة الانتخابات»، ولماذا يسعى لتوحيد الجبهة الداخلية بل ماذا يوّحد بعد أن قال لنا بالاشتراك هو والمفوضية أن شعب شمال السودان من الجنينة إلى كسلا ومن حلفا إلى كوستي كله إلا القليل جداً مِنْ مَن لا أثر لهم ولا تأثير قد أصبح على قلب حزب واحد وعلى قلب رجلٍ واحد بلا أدنى إختلاف لا سياسي ولا ثقافي ولا إثني وبلا حتى تعدد في الآراء والتوجهات، لا شيء إطلاقاً يجعل المؤتمر الوطني ينادي بحكومة عريضة أو يبحث عن إجماع وطني أو يسعى لتوحيد الجبهة الداخلية اللهم إلا لأحد أمرين، إما أنه يعلم في دخيلة نفسه حقيقة هذه الانتخابات التي لم تكن تعبر عن حقيقة موقف الشعب السوداني الحقيقي وإرادته الحرة التي لا يتسنى التعرف عليها إلا عبر عملية إنتخابية شفافة ونزيهة وعادلة وهو ما إفتقدته هذه الانتخابات التي حملته مجدداً إلى السلطة عبر «الصناديق المخجوجة» وهو الذي جاء إليها بدءاً عبر الدبابات المدججة، أو أنه لم ينفك يمارس عادته القديمة في رفع شعارات الوحدة والتوحد والاجماع كلما حلّت به ضائقة أو حاصرته نائبة، على كثرة ما جلب لهذه البلاد الطيبة من بلاوي ومحن كان أغلبها من صُنع يديه وسوء تدبيره وخطل تقديره وقراءاته الخاطئة والتي لم تكن تفرز سوى حلولاً أكثر خطلاً وخطراً تزيد الاوجاع وجعاً والأزمة تأزيماً حتى أصبحت بلادنا سلة للأزمات والمبادرات وهي يا حسرتها على أحزابها وقياداتها، المؤهلة لتكون سلة غذاء العالم وواحته للأمن والسلام، وها هي «الانقاذ» تعود الآن، وأول ما عادت به هو عادتها القديمة في التلويح بقميص عثمان الذي تبرع في رفعه كلما واجهت أزمة أو جابهت مشكلة ثم تعود لتدسه أو تدوس عليه عند إنقضاء الازمة أو إنجلاء المشكلة ولو إلى حين، وهكذا ظل هذا القميص بين رفعٍ وخفض حتى تمزق ولم يعد يصلح للمناورة، كما صلح أول مرة عندما رفعه عمرو بن العاص في معركة صفين، لا لإثارة جند المسلمين وحثهم على قتال المشركين، بل للأسف لمقاتلة سيدنا علي كرم الله وجهه، فهل إلى ذلك قصد الانقاذيون عند كل مرة يرفعون فيها قميص الوحدة والتوحد والاجماع للانتصار لنفسهم الصغيرة الزائلة ولو مؤقتاً على حساب الوطن الكبير الباقي... لو لم يكن حزب المؤتمر الوطني يتاجر بشعارات الاجماع الوطني ووحدة الجبهة الداخلية ويتخذها مطية فقط لتجاوز «زنقاته» و«تقية» ودرقة ليدرأ بها عن وجهه الضربات واللطمات، لكان أحرى به أن يطلق هذه الدعوات قبل الانتخابات، ولو لم يكن هدفه المناورة لا «الاستنارة» بها لكان قد أخذها بحقها منذ أيام الانقلاب الأولى، ولكنه كما ثبت بالممارسة لا يحتاج إلى أي نوع من أنواع «الوحدات» التي ظل ينادي بها بين الحين والآخر إلا حين تدهمه «داهية» من الدواهي العديدة التي كادت تذهب بريح الوطن، واليوم حين يعود لاطلاق ذات الشعارات فما ذلك إلا لأنه إستشعر مؤخراً جداً خطورة ما يجابه البلاد من أزمات وقضايا مفصلية تضعه أمام محك أن يكون أو لا يكون، وأصبح حاله الآن كحال من لم يستبن النصح إلا ضحى الغد، ذلك النصح الذي لم يكف عقلاء البلد وحكماءها من تمحيصه الحزب الحاكم مخلصين دون جدوى، أما الآن فلم يعد هناك أي هامش للمناورة بهذه الشعارات التي تحتاجها البلاد حقيقة وليس مراءً وفعلاً ناجزاً لا قولاً للتمويه، ولينسوا حكاية الانتخابات، فالمصير الذي تواجهه البلاد إن كان قد إحتمل في السابق مسرحية القصر وسجن كوبر فإنه اليوم لن يحتمل مسرحية المفوضية.. واللهم قد بلغت فأشهد...