صفيرالقطار الداخل إلى بوابة المحطة أيقظ سكون الطبيعة عند المغيب ، فضحكت العصافير فى أشجارها، وتمددت مياه البحيرة ، فتناثر رذاذها على وجوه حسانها المشعة من فتنة ِ الأصيل بأشعته الذهبية ، ناحتا ً حروفا ً موسيقية فى الفضاء ، تُترجم نغماتها هديل حمائم فى برجها العاجى تتراقص وتتمايل مع نسمات صيفية منعشة ، و مواء قطط ٍ ونبيح كلاب وأنين مرضى بجروحهم الغائرة فى صدر المساء ، فتشكل سيمفونية مضطربة تُعزف على أوتار الليل فتُحفز ما تبقى من كلمات ٍ مذبوحة على جدار الصمت لسماع ِ ألحانها . وصرخات السوق تشق أذآن السامعين إلى باعة ٍ يحملون مآسيهم ومحنهم التى تهد الحيل ، والنظرات والعبرات تلوَح للمسافرين بأشواقنا و أنفاسهم باقية تعطر سماوات الغروب . جلس ودغانم فى ركنه المكور الذى يزيِِِِِن جيد الحى ، يترقب فوران الشارع و الضجيج والإنفعال ، تتقاطع لديه خطوط القياس وإحداثياتها ، ترسم بؤرة من الضوء ، تشع بكراتها البلورية لتضىء بعض الأماكن المعتمة ، فينكسر ضوؤها مرتدا ً داخل عريشة من القش تضحك من وجوه أطفال عابسة تتكىء على عصا الوهم وتحلم بإناء صاخب وهو ساكن على نار بالية ، والعيون المتعشمة تسرح بهمومها فى هموم نساء يحملن أحلامهن فى رؤسهن من تسالى ومدمس وقنقليس وعرديب ، والسفر بها الى محطة القطار لبيعها والعودة إلى بيوتهن لإطعام أجواف جائعة . عنده تكبر الأحلام الصغيرة وتتمدد ، وأخرى تنقطع وتتوارى ، وهو فى جلسته يؤانس ركنه فى حميمية تحسده عليها وتتمناها ، تتفاءل به حسان الحى فى أشياء لايعرفها أحد ، واذاء مرت إحداهن أمامه غازلها بكلمات نقية فتضحك ، فتشبع الحى كله بأنفاسها ، وإذاء غاب يوما يسألن عن حاله ومآلات أحواله . يركل الكرات مع الأطفال ، يسخرون منه وينظر إليهم بنفس باسمة ، ويحمل فى دواخله خلاصة سنين من تجارب أهل الحى . ودغانم قيمة عظيمة الصمت يمكنه البقاء ساهما حتى صياح الديكة الأولى ، و يظل هائما فى أغوار نفسه ومحيطها ، لا يبوح بأسراره إلا إلى ركنه ، ويبادله الحديث والسكات والخيال ، وتحمل روحه طعم الزمن الفلانى ، فتمر به وتجلس معه وتتعلم منه ، يحادثك بهمهماتٍ فتقاطعه ، وتمازحه فينظر إليك بريبٍ فيخلط الحاضر بالماضى والمستقبل بالآن فتجتمع، عند ركنه كل تناقضات الحى ، فتتم اللقاءآت ويحدث الفراق وتحل العقد وتعقد الأزمات ، ويشارك بكلام ٍ قليل يبدو فى نهايته وميض حكمة غابت عن أذهان الجالسين ، فتثير كوامن البعض عليه ممن يحملون التشائم وفردية النظر .فصاروا يتربصون بلحظات الزمن الغائب فى دروب المتاهات اللامنتهية ، وحين لاحت فرصة الغفلة إنقضَت خيوط الظلام على ماتبقى من شعاع الحقيقة التائهة بين انجم ٍ متباعدة وعيون متنافرة ، فأنكسرت الجرة وتبخرت الأحلام ، فإنفض تجمع القوم السامرين . غادر القطار المحطة فعادت الطبيعة إلى سكونها ، فتسربت اليقظة إلى المنام ، والحركة إلى الهدوء ، والشارع يطوى آثاره بسرعة ملاحقا الأقدام المهرولة إلى أماكنها البعيدة ، وودغانم متكئا على الركن بجسده النحيل متأملاً أفول الأشياء عند هجعة الليل ، مراقبا عودة المودعين ، وإستقبال العائدين ، ويردُ على الإشارات بتنهدات من الحنين ، تخرج بعناء شديد ، وهو فى صفائه مسترجعا ً أفكاره ، فجت رصاصة غدر ٍ ظلام الليل وظهره ، وحاول بجهد ٍ شديد التماسك ، ولكن تساقط الجسد على الركن ، فضمه إليه حتى شهق فسمع زفرات ووحيحا ، ووقف الركن متسائلا ً عن فقد ودغانم وأيامه؟، والركن فى غفوة مع رفيقه لم يوقظه منها إلا صياح أحدهم ، لتخرج مكنونات الطبيعة من ثباتها بصيحات تهزُ هدأة الليل ، فينكسر صوت العشم الساكن فى بوابة الروح المسمومة من لدغات الزمن . وتطاير الخبر ، والحى بأكمله و حواريه يلطم الخدود ويصرخ ، إنه وقت الفجيعة . وقافلة المنايا تسير دون توقف ، فيلتحق بها ودغانم ، فتسربلت الجدران بالكآبة ، وتحرك الركن إلى مكان قصى ، وتحور على نفسه وإضمحل وذاب من شدة الحزن ، حتى تلاشى عن الناظرين ، فغابت الحكمة والتفاؤل وأشياء ُ ُ أخرى . ومن بعيد أصواتُ ُ تلامس أبواب الحى تهتف ، تعالوا نشدو سويا ً، نشد الساعد على الساعد ، نحرك السكون الراكد ، ونعدل كتف الزمن الميَل .