عَجِبتُ جِدَّاً لِأمْرِ هَؤلاءِ الذِينَ ما فَتِئُوا يَرفَعُونَ ذاتَ الشعاراتِ والعباراتِ التي كانتْ تخدمُ أجندةَ الحربِ الضروس بين الشمال والجنوب.. والتي انقضى عهدُها بانشطار السودان، يُريدُون الآن المزيدَ مِن سفك الدماء، والوقوعَ في براثنِ الفناءِ، ليسَ منْ أجلنا صَاغُوا تلك العبارات والشعارات.. بلْ منْ أجلِ ما تَبَلَّجَتْ عَنْهُ أوضاعُ الاستئثارِ بالسلطةِ والتَّشَبُّثِ بالمنصبِ، وإبعادِ ذوِي الكفاءةِ منْ أجلِ المحسوبيةِ، والاستمرارِ في سياسةِ ذرِ الرمادِ في العيونِ على شاكِلةِ «عِطْر مَنْشَمِ» ليخلصُوا نَجِيَّا منْ أنْ تُناوِشَهُم ألسنةُ المُطالبةِ بالحقِ العام، وبِذاتِ الشعاراتِ، أي، بِذاتِ المُخدِّرِ الذي مازال يسرِي مفعولُه في جسد الشعب السوداني فاقد السوائل والسيولة، تَتَكَأكأُ عليه إِحَنُه في عدم مقدرته على مسَايَرَةِ ما تقتضيه وجوهُ الحياة العصريَّة، بارتفاع تكاليف التعليم، والصحَّة، والصرف على كثيرٍ من الخدمات التي لا مَنجى ولا مفرَ منها، وترتفعُ الأسعارُ.. ويرتفعُ الدولارُ، وجنيْهُنا ينهارُ، ومن عظائم الأمور، وما يدعو إلى الويلات والثبور، أن يودي الشبابُ من أبناء المستضعفين في حروب اعتباطية، يصنعها من يريدون أن تدارَ عجلة السلطةِ تحت تصرُّف أسرهم وبمن يوادُّونهم ويحبونهم ليس في الله بل من أجل الجاه وسلطان لا يرون أنه سيبلى، شعارات لا تمت إلى سماحة الإسلام في شيء، ترى إن كانت هذه الشعارات مازالت تنطق بالتمييز بين الإسلام والكفر، ماذا تكون خبيئة من يطلقها على مسامع أهل السودان الذين أضحى جلهم من المسلمين والناطقين بلغة القرآن المؤدين لفرائضهم الإيمانية.. يسوقون نُعوتهم التكفيرية على إخوتهم من المسلمين في غير أدلة قطعية أو أدنى سند فقهي يخوِّلهم بتبنِّي ما ادَّعوه ورفعوه من شعارات تشين سمعة إخوانهم، وتعود إليهم بالفظاظة أي على مطلقيها، ولعمري إن في زمانهم الذي ملأوا حيوزاته انحسر الوعي بواجب الدين ونأى الناس عن قيمهم وغربت أخلاقهم، وانهال عليها من الغثاء الدخيل ما يكيل لهذه الشعارات بمكاييل صنع الموت المحقق لأخلاق الأمة، واستدرار العواطف حتى تطغى على ما تجود به العقول من الهداية، لتكتمل ثنائية غسل الأموال وغسل العقول، أجل، العقول العقول، التي يحتاجها المسلم ليجاري ويباري غيره من أبناء الأرض الأريضة والسماء المهيضة بما زخر به الفضاء وزحمته عقول من تَستَنْهضنا فيهم الشعارات أنَّهم أعداؤنا.. بمحضِ العواطف.. التي لم نسلم من جائحتها في ترديد الشعارات المستهدفة لها، وسياسة هجم النمر، واختلاق العداوات والاستعداء في تصرفاتنا، بعصبية قبلية، وميولٍ وأهواءَ جهويةٍِ يكرِّس لها الراعي باستدعاء واستمالةِ قلوبِ الرعيَّة.. عبْر العبارات التي تخرج بين ثنايا الشعارات.. وما مشاهدُ الأعراس الجنائزية ببعيدة.. وشلالات سيولها تتدفق في ألحان جنائزية لم يألفها المجتمع السوداني.. باختراق القيم.. والوعي الجمعي قسراً.. ولم يعد السوداني يفرح كما كان يفرح، كما أنه لم يعد يمارس حزنه بذات السجية، والشعارات المغلفة المُنطوية على خبيئة المنافع والانتهازية، هي من أجل تحريك صناعة الكسب والتأييد المطلق بمحض العاطفة، وإزواء العقل واجتثاثه من جذوره، حتى لا تعد أمام ساحات الاغترار والزهو بالسلطة وبهرجها من منافحة. وتتمدَّد سُرادق المراسم في كل حين.. في الصغيرة والكبيرة يغدقون عليها الهبات من أجل أن تطلها العربات الفارهات.. في مشاهد استعراضية أمام أبناء الفقراء العراة الحفاة الجياع.. ومن عجب أنهم يحفونهم بحفاوة التأييد والصياح.. ويقضون على الطوى في ساعات استقبالهم، وهم أكثر حظوة بما صنعوه من مطايب الأكل ولذائذ ما يستطعمون، فيقفلون أدراجهم في فارهاتهم المكيفة الباردة وهم خلف زجاجهم المظلل المحكم الغلق عن غبار وحرور شمس الغبش الذين لم تنقطع عن الفضاء صياحاتهم وهم على ضمور بطونهم وجوعهم من أجل الزائر السماوي.. ترى أية أمة نحن، أمة الشعارات والعبارات التي تعبر بنا من بر أماننا إلى مهاوي الردى والهلاك. والإنسانية ترقبنا بعين ملؤها الدمع لا الدماء.. ترى من لهؤلاء العراة الحفاة الجياع الذين يرزحون تحت خط الفقر الأحمر الناري.. تقول الأخبار إن الأممالمتحدة والشركاء يهتمون بشأن المواطن السوداني الذي وصل به الحال مبلغاً خطيراً وينظرون إليه بعين الشفقة، وتأتي إحصائية من تستدعي حالاتهم استجابة النداء الإنساني «4.4» مليون نسمة ومنهم أكثر من ثلاثة ملايين شملتهم الاستجابة والعون الإنساني في دارفور منذ عشر سنوات ومازالت الأمور تتفاقم خاصة بعد أن انفصل الجنوب، ولم تنفصل عرى أمن السودان من اطراد الحروب، والضغوط المعيشية تزيدها الضرائب والجبايات المستشرية في كل صقع ومنزل؛ تلاحق حتى من توقفت شرايينه عن النبض. ونصيحتنا لمن هم على دست الحكومة، أنكم استنفدتم التجربة بالتجريب المخل.. فالإسلام قد تأذى من عدم حسن مُسايرتكم كحكَّام وولاة لمسلمي هذه الأرض الأبية.. ولقد لاحقتنا ويلات فسادكم فكفاكم استعلاءً في الأرض واستعداءً لمن حولنا ومن هم فينا، وقد تفانيتم ودققتم بيننا عطر منشم.. ويقول زهير بن أبي سلمى: مَتَى تَبْعَثُوهَا تَبْعَثُوهَا ذَمِيْمَةً وَتَضْرَ إِذَا ضَرَّيْتُمُوهَا فَتَضْرَمِ فَتَعْرُكُكُمْ عَرْكَ الرَّحَى بِثِفَالِهَا وَتَلْقَحْ كِشَافاً ثُمَّ تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ فَتُنْتِجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ كُلُّهُمْ كَأَحْمَر عَادٍ ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ [email protected]