ترجمها عن الإنجليزية عزالدين ميرغني: & : - رواية صدرت بالإنجليزية في العام السابق بالمملكة المتحدة للدكتور عصام بابكر , الذي يهمل أخصائيا للطب النفسي بمدينة ( بريستول ) . وبطلة الرواية ( عائشة ) , ذات الستة عشر عاما , تعيش في مدينة سودانية علي ضفاف النيل في السبعينيات . وهي تكافح لتؤكد دورها في الحياة . وقد عاشت طفولة قاسية مع أم جافة العاطفة تجاهها . وقد توقف تعليمها بواسطة زوج أمها . وقد تبدلت حياتها للأحسن بواسطة عمها الشاب ( عثمان ) . ورحلت للعاصمة لتواصل تعليمها . وهنالك تعرف الحب , ولكنها تكتشف سرا مدمرا في ماضي أسرتها . يؤثر كثيرا علي مجري حياتها . هنالك أرض للحياة , وأخري للموت , والجسر الذي يربط بينهما هو الحب . ( ثورنتون وايلدر ) في روايته ( جسر سانت لويس راي ) . صيف 1969 بداية شهر يوليو , وفي منتصف الصباح , والشمس في كبد السماء , والهواء جد ساخن , خفيف , لا يعلق به شيئا , والصمت يعم المكان , وعائشة تلجأ لغرفة الضيوف وهي تئن من حرارة الشمس الحارة . رغم وجود ضلفتي الشباك العتيق فاتحتين . وهما يمنعان حرارتها الخانقة قليلا . ولكنهما لا شيء أمام ضوء الشمس الذي يخترق قويا غاضبا أرضية الغرفة الجافة . عائشة , كانت تشعر بأنها محاصرة , قابلة لأن تسقط فجأة , وهي فاقدة للوعي . بشرتها كانت تنضح عرقا باردا . محاصرة , أيضا بالخوف الذي بداخلها . وذاكرتها تأتيها كالفيض , قوية . تسارعت أنفاسها . ومناخيرها , تمتلئ برائحة الذكري , مثل رائحة طعام قوية , وحلقها يشرق بطعم الدموع المالحة . حاولت أن تبتلع ريقها , لكي تنظف ما علق بحلقها . انحنت لتأخذ الكتاب من مخبئه . وهي تتخذ حذرها المعتاد . كان باب غرفة الضيوف مغلقا . وكانت في وضع يسمح لها بسماع خطوات أي داخل للمنزل . وقد تركت ضلفتي الشباك الذي يفتح علي الشارع , مشرعتين . حذرا . عند قدوم الخطر . وزيادة فيه , تسلحت بمدية طويلة. ورغم ذلك كانت تحس بعدم الأمان . فتحت ديوان الشعر المهلهل . فقد كان أنيسها والسلوي , من خوفها , وقلقها . وخيالاتها . قراءتها متقطعة , متشنجة , وعيناها قد تعودتا علي الضوء الخافت . منعكسا علي الصفحة , بينما أذناها , متيقظتان , لكل مفاجأة ليست في الحسبان , قادمة . وأبيات من الشعر الذي تحبه يتردد صداه في راسها : - أنهض لوركا أنهض من صمت القبر قم من رطوبته أنهض وأقبض ماسكا . . ذاك الضوء القريب الواصل . فجأة تسمع باب الشارع يفتح , ويقفل , بصوت خفيض . قفزت علي رجليها , منتبهة . والسكين في يدها . حبست انفاسها . وهي تسمع هسيس خطوات , تمشي علي ارضية الفناء الخارجي . بعد لحظات من الرعب , سكتت . كانت خطوات أمها , تك , تك , وهي تعلن قدومها من السوق . تك , تك , أصوات جسد يترجرج , واهنا . كانت تتكي علي الحائط , لتحفظ توازنها . وتتنفس بسهولة . صفية هي والدتها . كانت تناديها , يا عائشة , يا عائشة , وبسرعة تخفي عائشة الكتاب , تحت الفراش . وجراب السكين في جيبها . أنا قادمة , قالت ذلك وهي متجهة نحو الشباك لتغلقه. واحد بداخل المطبخ الصغير , المبني من الطين , في أقصي ركن من مساحة المنزل الترابية , أوقدت عائشة الموقد الحديدي , واحضرت عجين الذرة المخمر . شغلت نفسها بأغراض المطبخ العادية كان ذلك يبدد قلقها حتي حضور والدتها من السوق . ولتستعد لإعداد وجبة الغداء . وعندما أنهت عملها , جثمت بقرب صفية والدتها . وهي تراقبها , تدلق عجين الذرة بمهارة علي سطح الصاج الساخن . ثم تمرر عليه قطعة من سعف النخيل الجاف . فتنضج خبزا من الكسرة اللينة الرهيفة . يبدو علي صفية بقايا باهتة من جمال سابق . مع خشونة وقسوة في التصرفات بادية . وتجاعيد كست بشرتها المتعبة من ارهاق العمل المنزلي . ومن المعرفة بملء الفراغ ولو بأي شيء . وهي ما تزال بعمر الزمن شابة في السادسة والثلاثين من عمرها . رغم ذلك فهي تتصرف كعجوز , وهي تجلس علي المقعد البنبر , بطريقة خرقاء ساذجة . عائشة كانت تراقب بإعجاب ضفائر أمها الممشطة الدقيقة . وقد كساها الشيب واسعا . وهو يغطي قاعدة عنقها . يبدو واضحا وهي تلتفت للخلف , لتأخذ عجين الذرة من اناء القرع , قرب قدميها . ثم وهي تستخدم كلتا يديها في انتزاع طرقة الكسرة من سطح الصاج . ولتضعها بعناية في طبق السعف الموجود امامها . وعندما تنظر صفية الي أعلي , تبرق عيناها المتعبتين , ويرتخي وجهها , بشلوخه الستة , الغائرة في وجنتيها . كل ثلاثة علي واحدة . وفي هذه الحرارة الخانقة , والهواء الساكن , والمكان الضيق , كانت الأم وعائشة , ينضحان عرقا , وعيناهما تتألمان من دخان الخشب المحترق . وهما في صمتهما المعتاد , فنادرا ما يتخاطبا . وعائشة تحس بالمكان الذي تتمني أمها أن لا تكون فيه . وهي تبادلها نفس الإحساس . رغم انها في المطبخ تحس بالأمان . صفية في يدها ساعتين من الوقت . وهي لا تترك أبدا شيئا للصدفة . تعمل بسرعة دائبة . حتي تعد الطعام جاهزا , قبل وصول الضيوف . رغم انها لم تتأكد منهم , ولكنها تطمئن اذا حضروا فجأة . ومن حكمها التي ترددها , ان الزوجة المثالية هي التي تستعد للضيوف دائما . كانت تلك وصاياها لابنتها دائما . عائشة كانت تشغل نفسها بحركة والدتها . وايقاعاتها الرتيبة , وهي مستغرقة في أفكارها . تنظر لأمها وهي تضع علي الموقد الاناء الكبير ممتلئا بالبصل المقشور المحمر . صفية في داخل مطبخها سلطة طاغية . فكل ما يتم فيه , صغيره , وكبيره , يجب ان يكون بمزاجها . ووقع عبء مساعدتها علي عائشة , بعد زواج اختها الكبرى زينب قبل اربعة أعوام , وانتقالها لتعيش مع عائلة زوجها , علي بعد نصف يوم من السفر . في عمر السادسة عشر , صارت عائشة طباخة ماهرة , ما عدا صنع الكسرة . كانت لها الفرصة لتثبت مهاراتها , وتحل مكان أختها بعد زواجها . ولكنها أخفقت في ذلك لأن أمها سرعان ما استعادت سلطتها في المطبخ . وما كان يؤلمها , انها لم تتلقي أي حمدا أو ثناء من أمها . علي مجهوداتها . بل كانت تغيظها بالثناء علي أختها زينب . التي لا يضاهيها احد . عائشة فضلت ان لا تجادلها في ذلك . وان تكتم المها في صمت . في البداية, كان ذلك يؤلمها , ويحبطها . وبعد ذلك كظمت غيظها , وصبرت . وهي تسأل نفسها , دائما , عن سبب ازدراء والدتها الدائم لها؟ احيانا كانت تعذرها , وتتحمل انتقاداتها , صابرة , بدون شكوي . فهي لن تستفيد شيئا , بل قد يقلق صفية هذا ويزعجها . لقد تقبلت عائشة حقيقة انها لا يمكن ان تساوي زينب اختها . وحتي زينب , كانت تنتقدها . ولكن ليس بأسلوب امها النقدي . لان عائشة كانت تدافع عن نفسها بندية قوية . صحيح أن زينب كانت تكبرها سنا , وتعرف كيف تؤذيها , وتنتصر عليها . ولكن عائشة كانت تتغلب عليها بالهدوء , والصمت فيما ليست متأكدة منه . وفي هذا ما يجعلها متساوية مع اختها . وليس هذا نتاج ذهابها للمدرسة كأخيها احمد , ولكنه شيئا موجودا بداخلها . ولدت به واستمرت . شكلا , فهي لا تشبه أختها أو أمها . رغم وجود بعض السمات الأسرية العامة . فهي اكثر طولا , مثل عمها عثمان . شعرها أقل تجعدا وخشونة . سهل التمشيط , ذو ضفائر طويلة تصل حتي كتفيها . فخورة بخصلتين مضفورتين طويلتين , تهفه مع الريح , علي صدغيها بحرية متمردة . تداعبهما دائما . وما يميزها عن اختها زينب , هو الهدوء وقوة الاحساس . وهذا ما كان يغيظها . صفية كانت تعتبر ذلك تكبرا وغطرسة . منذ الصغر كانت عائشة , تشعر بمسافة بينها , وبين أمها وأختها . كانت تحس بعدم الانتماء لهن . كأنها ولدت في العائلة الخطأ . وقد ساعدها ذلك , في النجاح وفي تخطي كل ما هو قبيح , بغيض . لقد وطدت نفسها وهي مقتنعة , بأن هذه هي طبيعتهن . بأن يكن كريهات وقساة . وهي ليست كذلك . وهو ما يجعلها بعيدة منهن . لا تشاركهن اهتمامهن المرضي بشؤون المنزل . وهوسهن , بتحقيق النجاح المثالي. عائشة ما كانت تريد لحياتها ان تطحنها الرتابة والروتين . صباحا ومساءا . مقتنعة تماما بان في الحياة ما يستحق أكثر من ذلك . لا تدري من أين جاءتها هذه الأفكار ؟ فقد كانت تحس دائما بأنها اكبر من تفاهات النساء والصغائر . وهي بينهن كأنها تمثل دورا تراجيديا لا يناسبها. والبنات في عمرها يقلدن بسذاجة امهاتهن . غارقات في العمل المنزلي الشاق , بفرح واستمتاع . ولا حلم لهن في الدنيا الا الزواج . وهو عندهن المنية , وآخر المطاف , هو الانجاب . والعودة لإكمال الدورة الحياتية , أمهات كالأمهات . هذه ليست عائشة . رغم انها لا تحمل تصورا لمستقبلها , وماذا تريد الحياة والدنيا ؟ ولكنها مقتنعة بان مثل هذه الحياة لم تخلق لها , ولا تناسبها . بهذه الاحاسيس لم تشرك معها أحدا , ولا حتي أختها . لأنها مثل الأخريات , ستكرر نفس روتين الحياة ودورانها . حياة الامهات البائسة . والآن , وزينب في التاسعة عشر من عمرها , وقد راح شبابها وولٌي , وعائشة تخاف من هذا المصير , فهي في حساب الزمن نديدتها . فهي أختها الوحيدة ورغم تباعدهما , ولكنها الآن وحيدة بدونها . كانت بريئة , تضحك منها دائما وليس عليها . وهي قادرة علي اسعاد أمها سعادة تجعلها بعيدة من مضايقة عائشة . وببعدها , جعلت أمها تتفرغ للسخرية منها وللسانها اللاٌذع . ولنظرات زوج أمها الشهوانية الجائرة . كل هذا كان يقلل منه وجود زينب . لقد اشتاقت لها , ولأخيها الصغير أحمد . وهو الآن بعيدا عنها , في مدرسته الداخلية . تركها بلا أحد يعتني بها . أحمد الذي يصغرها بعام . ولكي يكون ولدا يجب أن يكون قويا , ولكنه كان مهذبا , وحساسا , سهل التفاهم , ونٌاسا , بوجوده تشعر عائشة بالأمان , ولكن أمها كانت تعامله بمثل ما تعاملها . كانت عائشة رغم افتقادها له , فرحة بقبوله بمدرسة نموذجية ثانوية مشهورة , قرب العاصمة .