: هذا إعلان عن وظيفة شاغرة، في مكتب سياحي وتوكيلات سفر، سأتقدم لملئها. لقد مللت الجلوس بالبيت دون شغل أو مشغلة، منذ أن تخرجت في الجامعة. تتناول دار السلام موبايلها، تتصل على رقم الهاتف المصاحب للإعلان، يطلب إليها المتحدث أن تحضر يوم كذا للمعاينة. لفت إنتباهها صوته، جاءها قويا، عميقا، واثقا، به لكنة غير عربية. شدتها تعبيراته المتواضعة، فباتت تنتظر يوم المعاينة بفارغ الصبر. كما صارت تواصل التدريب على الكمبيوتر، منذ فترة لم تجلس إليه. تهندمت في اليوم المقرر للمعاينة، بعد أن قضت وقتا طويلا ليستقر رأيها على اختيار ماسترتديه. استقلت سيارة أجرة، وصلت المكتب، ترجلت من السيارة، دفعت الباب ودخلت. لفت نظرها النظام، والترتيب، واللمسات الجميلة. وحيث نظرت كان ذوقا رفيعا. وجدت الساعي، سألته عن مكتب المدير، أشار إلى باب زجاجي في نهاية البهو. طرقته أتاها صوت من الداخل: تفضل. خطت إلى داخل المكتب، وجدت شخصا أسمر اللون، فارع الطول، أنيق الملبس، يجلس خلف مكتب فاخر. داعب أنفاسها عطر فواح. وقف الرجل مرحبا بها، مد يده قائلا: مرحبا أنا ارثر بيتر. وضعت يدها فوق كفه : أهلا أنا دار السلام عبد الواحد، جئت من أجل المعاينة. رد: تفضلي، نحن بإنتظار البقية. أخذ يتجاذب معها الحديث بلكنته التي منذ أن سمعتها على الهاتف، أدركت أنه من جنوب الوطن. تسلمت دار السلام العمل في المكتب، أحبت عملها، أتقنته، وأصبحت هي كل شيء، حتى صار أرثر يعتمد عليها في كل صغيرة وكبيرة. تنظم له عمله وجدول مواعيده، وإجتماعاته مع الوفود. وحين يقرر السفر، ماكان عليه سوى أن يحمل حقيبه ويذهب إلى المطار. وأحيانا كانت توصله وتعود بالسيارة لتضعها في الجراج. تطورت العلاقة بينهما، حتى صار أرثر لايستطيع القيام بأية عمل دون إستشارتها. يتناولان إفطارهما سويا، تعد له القهوة التي يحبها، يقول لها: صار للقهوة مذاق آخر! صارت هي تحب القهوة وتحتسيها، لأن آرثر يحبها, ويتناولانها سويا. عندما ينتهي الدوام، يأخذهما الحديث، وتتشعب المواضيع، يسرقهما الوقت، فيقوم آرثر يتوصيلها إلى أقرب مكان يمكنها أن تتابع منه إلى منزلها. تجد أمها في انتظارها، تقول لها الأم: لماذا تأخرت؟ ترد عليها: العمل يأمي، وصل الوفد متأخرا، فاضطررنا أن نواصل العمل. وأحيانا تتذرع بعقد إجتماع طارئ. عندما تخلد إلى فراشها، تشرع في إستدعاء كل كلمة قالها لها آرثر، وكل لفتة أتى بها، تشعر بسعادة غامرة، وإحساس موار يتلفعها، تتذكر كيف يقتسم معها طعامه، ويصر أن لم تأكل، فسوف لن يفعل هو. يقدم لها وردة بيضاء ويقول لها: هذه مثل قلبك، فيصطفق الفرح بين جوانحها. تلتقي آرثر زوجته عند باب الدار، كعادتهما، هي وابنتها، فيقبلهما بلهفة، ويسألهما عن أحوالهما، وكيف قضيا وقتهما، يسأل ابنته عن دراستها، وبعد أن يستريح يستذكرلها دروسها. يتناولوا الطعام سويا. عودته تشيع سعادة في البيت. في الأمسيات يقضون أوقاتا جميلة بالخارج. لكن الحال تبدل، واللهفة فترت، أصبح الإستقبال باردا، يجلس آرثر ساهم شارد الفكر، يسرح خلف طيف دار السلام، يتمنى لو أن اليوم العملي يبدأ قبل أن ينتهي. صار يطلب منها أن يقضيا بعض الوقت في مطعم أو كفتيريا. وظل كل منهما يتحجج بكثرة الوفود وضغط العمل. تقف دار السلام أمام المرآة طويلا، تتطلع إلي وجهها وجسمها، تحاول أن تكتشف مايجذب آرثر إليها لدرجة أن يضحي بالوقت الذي ينبغي أن يمضيه بين اسرته! نعم هي جميلة، لكنه تزوج عن حب، هل تخبو جذوة الحب بعد الزواج؟!! يتحدث آرثر إلى نفسه» ربي ماذا فعلت بي هذه الفتاة، لقد أصبحت لااطيق فراقها، ما هذا؟ هل حبي لها يختلف عن حبي لزوجتي؟! لم أتوقع في يوم أن تأتي امرأة وتحتل مكانتها في هذا الخفاق! تحتار زوجته من الفتور الذي أصاب علاقتهما، والسرحان الذي يدور في فلكه آرثر، حتى ابنته التي كانت كل حياته، لم يعد يداعبها كما كان، ولايراجع لها دروسها. لقد تغير كل شيء في حياتنا. عندما اشتدت بها الحيرة، وكثرت علامات الإستفهام!! سألته: _ ماذا غيرك ياآرثر؟ أنت لن تعد تحبني، لم تعد تشتاق إلي، ولا لإبنتك! ماذا حدث؟ هرب من نظراتها ورد عليها: _ العمل مضني، إنه يرهقني، يأخذ كل وقتي. تشعر أن ماغيره ليس العمل، هذا هو عمله منذ أن عرفته، لابد أن يكون شيئا أكبر من ذلك. أخذت تراجع تصرفاتها، تبالغ في زينتها، تتودد إليه. كان ذلك يضايقه أكثر، إلى أن ثار واتهمها بالجنون، تأزمت علاقتهما. كانت تحاول أن تبعد الشكوك، لكنه صار يخطأ ويناديها باسم حبيبته. فأصبح الشك يقينا، لكنها فضلت أن تمنحه فرصة يراجع فيها نفسه. حينما تمادى في إهمالها، وصار يبتعد عنها، يأتي البيت متأخرا ومتعبا، لايكاد يشغل نفسه بها ولا بإبنته، لم تعد تحتمل أكثر. ثارت في وجهه متهمة إياه بالخيانة، إنها تعرف أن في حياته أخرى، وأنه أصبح يهذي باسمها. إشتعل البيت، خيرته بينها وبين الأخرى. جمع حاجياته وغادر البيت. وفي المكتب شغل إحدى الغرف الخاوية. وحرص على ألا تعرف دار السلام ذلك. استمرت العلاقة الحميمة بين آرثر ودار السلام، صارا يمعنان في السهر مع بعضهما، يتزرعان بحجة ضغط العمل وكثرة الوفود. ذات يوم سرقهما الوقت وهما ينعمان بصحبة بعضهما، تبادلا اكواب العصير، تقاسما السندوتشات. يقول آرثر: _ لااتخيل حياتي بدونك. تقهقه رامية رأسها إلى الوراء وهي تقول له: _ ولا أنا. ضمنا الوادي فمن يفصلنا؟ يبثها لواعج وجده، وهي في قمة سعادتها. فجأة تنبها إلى ان الزمن قد مرّ على غفلة منهما. قاد آرثر السيارة بسرعة ليوصلها، انزلها بالقرب من البيت لخلو الشارع. رأها أخوها وهي تنزل من السيارة، إنتظرها حتى دخلت البيت، سألها: _ من هذا الذي اوصلك بسيارته؟ _ إنه زميليي في العمل، عندما تأخر الوقت، عرض علي أن يوصلني. لم يصدقها، أوسعها ضربا، مزق ملابسها، كاد أن يقتلها، لم يشفع لها عنده أية وعد أو قسم بأنها لن تتأخر، ولا توسل والدتها أجدى. وفي الصباح علم بقية إخوتها فأجمعوا على منعها من العمل. مكثت عدة أيام سجينة الدار حتى تدخلت الأم بحزم، وأخذوا عنها وعدا بألا يتكرر منها ذلك. تأزم آرثر ولم يستطع أن يتحمل بعدها، وكان يطمئن عليها عبر الهاتف، فقد أخبرته أنها مريضة. عرض عليها أن يأخذها إلى الطبيب، لكنها شكرته، وأخبرته أن إخوانها قاموا بذلك. وصلت دار السلام إلى المكتب مبكرة بعد ذلك الغياب، وجدت الساعي يحضر كوبا من الشاي. سألته: _ لمن هذا؟ _ إنه للأستاذ آرثر. _ أهو هنا؟! _ إنه هنا منذ يومين، ينام بالمكتب. أدركت أن شيئا لابد حدث. تألمت، جلست إلى مكتبها تفكر. إنفتح الباب، دلفت منه طفلة جميلة، كانت دار السلام قد شاهدت صورتها على مكتب آرثر، وحدثها بأنها ابنته، وكيف هو يحبها. نادت على الطفلة، قالت لها: _ من أنت؟ _ آرثر والدي، أنا أريد أن أرى أبي، أين هو؟ _ ألم يكن معكم بالبيت؟ _ هو لم يأت منذ يومين، قالت أمي إنه سوف يتركنا، لذلك أتيت إليه ليعود معي للبيت. ترقرق الدمع في عينيّ دار السلام، قالت للطفلة وهي تربت عليها: _ والدك سوف لن يترككم، بل سيعود إليكم. ثم قالت تخاطب آرثربينها وبين نفسها» إن حبنا ليس حبا نقيده بزواج، أو نصوغه في دبلتين نطوق بهما اصبعينا. إن حبي لك ياآرثر حب بحجم هذا الوطن الكبير، إنه يمتد بمساحة مليون ميل.