اهدي هذا المقال المختصر لروح الراحل محمد عابد الجابري، وترجله عن فرسه والفكر العربي في امس الحاجة الى امثاله، واهداء الى كل من يريد ايقاد شمعة في دروب الظلمة وضروبها المظلمة، فظلام العالم كله لا يطفئ شمعة، ونحن العرب في أزمة . فالأزمة المعاصرة ليست أزمة اقتصادية او سياسية او عسكرية، فهي «ازمة فكرية»، وللفلسفة دورها الحضاري في التطور الحضاري الفكري «المادي والمعنوي» وللفلسفة دورها الرائد في بلورة الفكر الانساني عبر عصورها الفلسفية.. والانسان المعاصر حائر وجائر في نفس الوقت، قلق ومتهور، بل أصبح كائنا غير مبالٍ، لا شيء يلهمه، ولا شيء يحرك كوامن وجوده الباطن، فلا يستشعر اية دهشة، او تعجب او حماسة او اي اجلال، واصبح ينزلق فوق سطوح الاشياء، والانسان الذي نريده أن يكون واعيا بنفسه وما حوله، ويتمتع بقوة نفاذة ليتذوق قيم الحياة بكل ما فيها من وفرة وامتلاء وخصوبة، ومهمة الفيلسوف هي الأخذ بيد ذلك الإنسان المنزلق لكي يسترد عافيته، تلك الحاسة الانسانية ليرى الجمال ويدرك المعاني ويحس بالجمال ليعمل بمقتضى الجمال، لتحويل، العالم من المرتبة الطبيعية الصرفة الى المرتبة الاكسيولوجية الحقيقة. والواقع العربي منهار وينحدر نحو الهاوية، فيجب إنفاذه من هذا التردي والواقع المهيمن. ٭ وللغرب قراءة آحادية، ومع أنها عرجاء وعوجاء وهوجاء، إلا انهم قرأوا بها، ونحن العرب والمسلمين لنا ثلاث قراءات، ولكننا لا نقرأ بها «أمية حضارية»: /1 قراءة الوحي كتاب الله المقروء والمنشور «القرآن» - عالم الروح. /2 قراءة الكون كتاب الله المنظور والمحسوس «الوجود» - عالم المادة. /3 وقراءة النفس كتاب الله المحفوظ «الانسان - D.N.A » - عالم المعرفة. ودخلنا الالفية الثالثة بلا سلاح، فإن وجد سلاح فهو مهيض ومنكسر، مع أن حجم التغيرات التي اصابت عصرنا هائل في تأثيرها على البنى الاجتماعية والاقتصادية والمعرفية والجمالية، ونحن في حالة دهشة «بلهاء» مع واقع الهيمنة الغربية التي تفرضها حالة الجذب والطرد.. والفكر العربي غرق اما في سلفية او غربية ليبرالية.. وصلتنا بالغرب لا تتجاوز ثلاثة محاور: استتباع او استعداء او استلهام، فالاستتباع تبعية مذلة، واسترقاق حضاري، والاستعداء انتحار حضاري، فلا يبقى غير الاستلهام الذاتي والتحاور الحضاري لواقع معاش على المائدة الحضارية بمشاركة ندية. وقد انبرى رجال من أهل الفلسفة في محاولة مستميتة للنهوض بالفكر العربي والاسلامي حتى يكون ندا للفكر الغربي المهيمن، اذكر منهم د. عبد الرحمن بدوي ود. زكي نجيب محمود ود. فؤاد زكريا ود. الاهواني ود. النشار ود. حسن حنفي ود. طيب تيزيني ود. محمد أركون ود. نصر حامد أبو زيد وغيرهم، وعلى رأسهم هذه القائمة الراحل المقيم محمد عابد الجابري، ذلك الفارس الذي ترجل عن فرسه في زمن يحتاج الى امثاله في محاولته لاستبقاء العقل العربي في مجرى التاريخ بعد أن اصابه الوهن، بل الغياب الكامل عن ساحات الفكر في محاولة لاستبعاد العقل العربي وتاريخ الفكر العربي وطمس الخطاب الفلسفي العربي المعاصر، حيث توقف الإبداع العربي الإسلامي بعد «ابن رشد» في المغرب الإسلامي «الاندلس» و«صدر الدين الشيرازي» في المشرق العربي «ايران».. ونجد بعض المحاولات الجريئة في الفكر التصاعدي من النقل الى الابداع للدكتور حسن حنفي في قيادته للثورة الفلسفية العربية، ود. الطيب تيزيني ومشروع رؤية جديدة للفكر العربي من التراث الى الثورة، ود. محمد أركون في تفكيك مفهوم العقل من خلال مساءلة العقل، ود. نصر حامد أبو زيد في سلطة النص وتجديد المفاهيم وتحديد المجال الإبداعي، أما محمد عابد الجابري فمن التفكيك والتحليل والبناء أي بالتوازن في التحليل البنيوي وقراءة جديدة للنص. ولم يفسر الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن، حتى لا يكون تفسيرا توقيفيا، وذلك ليسع القرآن الحركة الانسانية والتطور العلمي وحل المشكلات المتغيرة والمتصاعدة.. فقد تنزل القرآن بايقاعات القرن السابع الميلادي، ولهذا فهمه إنسان القرن السابع الميلادي بدون تفسير، فلم يسأل أحد عن معاني فواتح السور «ألم، المر، حم..» فاذا ما حذفت الحروف المتكررة تبقى حروف غير مكررة من أربعة عشر حرفا تكون جملة مفادها «نص حكيم قاطع له سر» وعطاءات القرآن متجددة عبر الأزمنة والأمكنة، والقرآن يحمل في طياته مفاهيم متجددة ومتسقة مع الزمان المتغير والمكان المتجدد والانسان المتطور، باعتبار ذلك معجزة زمانية ابدية من خلال اسباب النزول «المكان» وغاية النزول «الزماني» الممتد المعطاء. ويكون ذلك بتجاوز طابع النقل والتقليد والاتباع والمسايرة الى الابداع والمبادأة، وعلى ألا تكون من خلال قراءة تراجعية وارتكاسية كما يقول محمد عابد الجابري. ويعتبر كتاب «الخطاب العربي المعاصر» 1982م للجابري، ضمن مشروع نهضوي عربي في نقد العقل العربي من نقد الخطاب الى التعريف بالقرآن، وهو الإعلان الاول للممارسة النقدية للخطاب النهضوي بانواعه الآيديولوجية والنظرية والسياسية. وان تشخيص الخطاب هو الموقف عند تهافته وتناقضاته ما بين المفهوم والواقع.. إذ أن ذلك يبرز علامات «اللا عقل» في الفكر النهضوي. وقراءة الجابري هي قراءة ابيستيمولوجية «معرفية» تنظر الى آليات الخطاب وطرق تعبيره والكيفية التي يقول بها، بدلا من الميل الى التصنيفات الآيديولوجية، وهذا في نطاق العقل العربي. ونريد هنا التنويه إلى كلمة «العقل العربي» والمقصود منه «العقلانية العربية» او التفاعل العربي والفكر والذات والثقافة، فليس هناك عقل عربي وآخر انجليزي او صيني، كما ذكر بعض النقاد بكلمة «العقل العربي» .. وان تحليل الخطاب النهضوي العربي للجابري يتم من خلال الثنائيات الفكرية والآيديولوجية على مستوى الفكر والتعقل، حيث كان الخطاب العربي خطابا وجدانيا.. لا خطاب عقل، او كما يقولون «كلام في كلام» .. وكانت وجهة نظر الجابري إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر، بإعادة بناء الخطاب والرؤية، وليس فقط ابداء الرأي في مسألة معينة، او النقد من اجل النقد بدون وضع حلول للوصول الى نتائج. وذلك من خلال تفكيك الطرح الآيدولوجي والمذهبي لقضايا الفكر العربي المعاصر وإعادة بنائها من جديد على أسس سليمة.. ولتبسيط المعنى البنائي نضرب مثلاً.. يريد معماري بناء عمارة من عشرة طوابق في مكان عمارة مبنية من اربعة طوابق، عليه اولا هدم هذه العمارة لوضع اساس يتحمل عشرة طوابق... ومثلا نقد كانط الميتافيزيقيا، وهدم الميتافيزيقيا التقليدية لبناء ميتافيزيقيا حيوانية او ميتافيزيقيا الأخلاق. فكان مشروع الجابري في التفكيك ثم اعادة البناء بالنظر الى الثنائيات، مثلا «العروبة والاسلام» و «الديمقراطية والشورى» و «التجديد والاصلاح» لتأسيس فلسفة عربية معاصرة. إن أفق تفكير الجابري في نقد الخطاب العربي المعاصر، ليس إلا لحظة من لحظات التفكير الابيستميولوجي في بنية العقل العربي، الذي يتجلى في مظهر من مظاهر الإصلاح الديني بالتفكيك وإعادة البناء والتأسيس.. فكان رهان الجابري في تفكيك المأزق العربي وتشريح الأزمة المزمنة، ثم إعادة اللحظة من جديد. وموقف الجابري من نقد العقل العربي والممارسات الفكرية، أحدثت لغطاً وجدلاً مستمراً، ويرجع ذلك إلى محاولته تأسيس خطاب «أخلاقي قيمي إسلامي» ينبني على مبدأ العمل الصالح، وتأسيس خطاب اصلاحي على مستوى العقيدة والشريعة من خلال السيرة النبوية، والسلوك المحمدي في تطبيقه للقرآن بحسب ترتيب نزول السور، في سباق ديناميكي متصاعد في تناغم واتساق أسباب النزول «المكاني» وغاية النزول «الزماني» الممتد في اتساق الايقاع الزماني المتغير والايقاع المكاني المتجدد والايقاع الانساني المتطور «الزمكان» .. عليه رحمة الله، فقد أوقد شموعاً على دروب الظلمة وضروبها.