أحتج مرّة أمير الشعراء شوقي احتجاجاً غاضباً على تصرف أحد القادة الانجليز أيام استعمارهم لمصر قائلاً: ومشى على تاريخها مستهزئاً ولو استطاع مشى على الأهرام وخاف صديقنا الأستاذ المثقف هاشم الإمام محي الدين من تكرار «المشي على التاريخ هذا» عندما زار الأزهر في الأشهر القليلة الماضية قادماً من مهجره في أمريكا ومرّ به الدليل السياحي على «رواق السنارية» وهو الرواق الذي بناه ملوك السلطنة الزرقاء السودانية 1505 1822 لسكنى طلاب العلم السودانيين الذين يدرسون في الأزهر في ذلك الوقت فلما سأل عن الرواق قال له دليله إن الروّاق قد ألغى وأقيمت في مكانه مكاتب فقال هاشم: ولكني رأيت أروقة تاريخية أخرى لم تقم في مكانها مكاتب بل احتفظ بها وجعلت جزءاً من مصليات الأزهر واحتفظت باسمها كما هو مثل رواق الأتراك وأروقة أخرى غيره. وكان رواق السودانيين هو الأولى بالمحافظة للجوار والإخاء وآصرة الدم القديمة وما يربط مصر بصفة خاصة من تاريخ الفتح أو «الغزو» للسلطنة الزرقاء «اختر من الكلمتين ما يناسبك» عام 1822م. وقد رأينا فيما بعد أن الغزو البريطاني للدولة المهدية بعد ست وستين سنة من ذلك التاريخ قد احتفظ بالرموز التاريخية المهدوية كما هي بل اجتهد في وضعها في متاحف في السودان وفي انجلترا وظلّت هذه والمفاهيم المهدية مجال دراسات أكاديمية عميقة لمدد متطاولة وكان العشم أن يلقى التراث السوداني من الإخوة الأشقاء في مصر فوق ما لقيه من الانجليز بكثير بل بما لا ينبغي أن يقارن كثرة وعناية. صحيح أن العلاقات السودانية، المصرية تمر هذه الأيام «بعثرة» بعد ما فهمه المصريون من تصريحات وزير الخارجية السوداني الأخيرة والتي قال فيها إن مصر كان يتوقع منها أن تساهم بايجابية أكثر مما فعلت في الشأن السوداني مما أثار بعض عدم الارتياح لدى الجانب المصري. لكن العلاقات السياسية الثنائية بين كل البلاد تمر بهذه الأزمات المؤقتة وتتجاوزها و(Graph) العلاقات السودانية المصرية دائماً كالزئبق يعلو ويهبط فجأة، وأظن أن هذه أزمة عابرة سيتجاوزها الشقيقان أو قد تجاوزاها بالفعل. لكن الأبقى في هذه العلاقات والذي ينبغي أن يعول عليه ليس السياسة بمنحنياتها ومنعرجاتها ومطباتها الكثيرة المعروفة ولكن الذي يبقى ويعتمد عليه في هذه العلاقات هي الجوانب الثقافية والاجتماعية لأن الاحترام المتبادل الحقيقي يظهر جلياً هنا فالعلاقات الثقافية المحتوية على التبادل التعليمي الذي كان ضخماً بين البلدين والتبادل الإعلامي والتبادل الأدبي والفني وحرية التنقل والامتلاك والتعارف بين أفراد وجماعات هذين الشعبين هو حجر زاوية العلاقة الوطيدة الحقيقية التي ينبغي رعايتها والاهتمام بها. وقد كتب الأخ هاشم الإمام محي الدين مقالاً في إحدى الصحف طالب فيه بإعادة الاعتبار «لرواق السنارية» بحسبانه معلماً تاريخياً من معالم التبادل الثقافي المهم بين شعبي وادي النيل. بل دعا إلى تصحيح الوضع بنقل المكاتب إلى أماكن أخرى وإبقاء اسم الرواق ورسمه ورمزه مما لن يصعب على الأزهر. وأجدني أضم صوتي إلى صوته وأناشد الحكومة المصرية متوسطاً إليها بسفيرنا بمصر السيد «والي الجزيرة سابقاً» عبد الرحمن سرالختم بما عرف عنه من الشهامة وما لا بد أن يكون قد خلقه من علاقات متينة في مصر تتجاوز الرسميات أن يصحح هذا الوضع الثقافي وأن يعاد رواق السنارية إلى وضعه الطبيعي كبقية الأروقة التاريخية لحرصنا الشديد على متانة العلاقة مع مصر التي هي عمقنا الاستراتيجي الشمالي ونحن عمقها الاستراتيجي الجنوبي.