في الأثناء كثفت السلطات الأمنية خلال اليومين الماضيين من حملاتها ضد تجار العملة بالأسواق الموازية، وكشفت مصادر صحفية عن توقيف عدد منهم، فيما كشف متعاملون مع الأسواق الموازية عن إحجام شراء الدولار وسط عرض كميات كبيرة منه بالأسواق غير الرسمية. وقالوا إن أسواق العملات ما تزال تحت صدمة قرارات بنك السودان الأخيرة التي تُقيد حركة استخدامات الحسابات الحرة والموارد الذاتية وذلك بمنع الاستيراد عبرها وحصر الاستيراد عبر البنك المركزي. وابتعد عدد من المستوردين والمصدرين عن شراء العملات الأجنبية لحين وضوح الرؤية والاستقرار على سعر للصرف. وأعلن البنك المركزي عن إلغاء الاستيراد دون تحويل قيمة، واشترط موافقته المسبقة على عمليات الاستيراد بهدف إيقاف تدهور العملة الوطنية. تزامنت الإجراءات الأخيرة مع زيادة للسعر التأشيري مع حزمة قرارات حكومية خاصة بحظر الاستيراد من دون تحويل قيمة المنتجات إلى البنك المركزي، وإلزام البنوك والتجار بتحويل حصائل الصادر إلى المركزي، بالإضافة إلى سياسات أخرى في مجال ترشيد الإنفاق العام ومنع تهريب الذهب. ويرى مراقبون أن الإجراءات الأخيرة للبنك المركزي تهدف لتقليص الفجوة بين السعرين الرسمي والموازي للدولار. يقول المحلل الاقتصادي د. هيثم فتحي، إن السودان يُواجه مشكلة في استقرار سعر الصرف والتضخم. ويشير فتحي إلى أن الإجراءات الأخيرة تنطوي على خطورة خاصة فيما يتعلق باحتكار تصدير الذهب لبنك السودان، ويقول: "ستُوفِّر الخطوة النقد الأجنبي للمركزي، إلا أنها ستفتح مجالاً للتهريب، لذا لا بدَّ من أن يقوم البنك بدراسة المعادلة للتصدير وجلب موارد حقيقية للبلاد". ويقول وزير الدولة الأسبق بالمالية بروفيسور عز الدين إبراهيم، إن البنك المركزي اتخذ حزمة الإجراءات الأخيرة لتخفيف الضغط على الدولار إلا أن تلك الإجراءات تنطوي على خطورة مثل منع استيراد العديد من السلع الذي سينعكس على تخفيض الرسوم الجمركية التي تعتمد عليها الدولة في موازنتها. ويلفت إبراهيم إلى أن البنك المركزي درج على اتخاذ إجراءات تهزم إجراءات أخرى بسبب تركيز جهوده على تركيز سعّر الصرف دون اعتبار لبقية الأشياء وهو ما تسبب في حالة من الركود بعد الارتباك الذي حدثت في الأسواق، لا سيما في حركة الصادر والوارد مما قلل نسبياً من الطلب على العملات الصعبة في ظل عدم استقرار السياسات الاقتصادية وصعوبة التنبؤ بتأثيراتها. من جهته، يرى المحلل هيثم فتحي، أن الظروف الاقتصادية الداخلية أدت لعدم استقرار سعر الصرف بجانب تأثير الحصار الاقتصادي الطويل على السودان الذي خلق صعوبات إجرائية وفنية للبنوك العالمية في التعامل مع السودان، مضيفاً: "لدينا إنتاجٌ جيّدٌ لكن لا نديره بشكل جيد، فلا بدَّ من تهيئة البنيات الأساسية وتطوير السياسات الكلية للقضاء على بعض الاختلالات الاقتصادية وخفض معدلات التضخم وإقرار إصلاحات في القطاعات الانتحارية وعلى رأسها الزراعة". ويشير فتحي إلى أنه في ظل هيمنة السياسة المالية على السياسة النقدية خاصة سياسة ضخ النقود لصالح البنك المركزي على باقي السياسات الاقتصادية وإرادة الحكومة في تبنّي الإجراءات وعقوبات قانونية للمتعاملين في سوق النقد الأجنبي، التي أثبتت التجربة أنها أقل فاعلية في التأثير في تحقيق الهدف، مضيفاً: "السعر التأشيري قد يكون إيجابي في المدى القصير، ولكن لتحقيق الأهداف المُبتغاة في المدى الطويل لا بد من إجراء إصلاحات حقيقية لزيادة الإنتاج والإنتاجية". من جهته، يقلل أستاذ الاقتصاد بروفيسور حسن بشير، من فاعلية إجراءات البنك المركزي، ويقول: "الإجراءات تُطارد الأعراض ولا تُعالج المرض الأساسي أن لم تكن تفاقمه". ويقول بشير إن الحد من السيولة يمثل إجراءً مضراً يُمكن أن يقود لزعزعة الثقة في النظام المصرفي وتسرّب الكتلة النقدية لملاذات امنة، بجانب خلق حالة من الكساد الاقتصادي، فضلاً عن اختناق في النقد الأجنبي. توقعات ومآلات في ظل الأوضاع الحالية يبدو أن هناك حالة من اللايقين في الاقتصاد تُسهم في خلق بعض الركود. ويتوقع المحلل الاقتصادي هيثم فتحي توقف نشاط تجار العملة الذين كانوا يستغلون الطلب الكبير على الدولار مما يستدعي تسعير عادل لسعر الصرف في البنوك لإبعاد أيِّ مجال للمضاربات فضلاً عن توفيره لسد حاجة المستوردين حتى لا يلجأوا للسوق الأسود، مضيفاً: "يبدو أن المركزي استعد جيداً لمعاقبة المضاربين". بينما يتوقع بروفيسور عز الدين إبراهيم، أن يواصل الدولار الانخفاض لفترة في ظل عدم وجود طلب عليه. في ذات الوقت، يرى بروفيسور حسن بشير، أن الإجراءات الأمنية والإدارية لن تجدي وحدها لاستقرار سعر الصرف وتعافي الاقتصاد. على كُلٍّ، يبدو أن البنك المركزي وتجار العملة يدخلون في مواجهة مصيرية يستند فيها كل طرف لما لديه من سيولة أدوات، صحيح أن الجولة الأولى بدا أنها حُسمت لصالح البنك المركزي بعد أن انحنى تجار العملة لعاصفة الإجراءات، إلا أنه من الصعب أن نقول إن المعركة حُسمت، إذ إن طابعها طويل وتقوم على النفس الطويل، فضلاً عن أن الإجراءات الإدارية والأمنية لن تكون فعالة على المدى الطويل لضبط سعر الصرف ما لم يتم تعزيزها بحزمة إصلاحات هيكلية تحفز الإنتاج على المستوى الرأسي والأفقي.