احد الاصدقاء الأعزاء اعتبره الواحة الظليلة التي اتكئ تحتها مستظلا بظلها من رهق الدنيا وهجيرها فهو رجل فكه ذو نكتة حاضرة وكلمة ساخرة ونصيحة تحتاجها عند الملمات. هاتفني قبل أيام بعد انحسار موجة الكورونا وخروج الناس أحرارا طلقاء من الحبسة والكبسة التي طالت واستطالت حتى بلغت الروح الحلقوم. دعا نفسه على كوب شاى في منزلي وهذه واحدة من ميزاته أنه لا يضع حاجزا بينه وبينك ويعتبر أن بيتك بيته والعكس. رحبت بالفكرة خصوصا وأن آخر لقاء بيننا فصلته فواصل الكورونا والحجر المفروض على العالمين. جاءني في الموعد المضروب بالعمة والمركوب والعطر النفاذ يسبقه مثل سرينة الوزراء والكبراء. جلسنا نتجاذب اطراف الحديث فقال لي بلا مقدمات أن الناس قد لعنوا الكورونا وسنسفيل جدود الكورونا ولكنهم لم يروا الجانب المشرق منها. استغربت لذلك الطرح الغريب والرأي المريب فقلت له بلا لف ولا دوران هات ما عندك الآن والحين. قال لي.. يا صديقي انت تعرف انني اخاف المرض وأخشى أن اغادر دون وداع لذلك نزلت في اجازة من العمل حتى انجلاء الوباء انتظارا لرحمة السماء أن تتنزل على العالمين. منذ البداية انتخبت ركنا قصيا من الهول بحيث أشاهد بارتياح واتفرج باندياح على المسلسلات واخبار النشرات ثم أراقب ما يدور حولي من أحداث في المنزل. منذ اول يوم لاحظت أن الزوجة العزيزة تكثر من الدخول والخروج من المطبخ وقد عددت لها عشر مرات دخلت فيها المطبخ وفتحت الحلة الموضوعة على النار وألقت عليها نظرة واحدة لا تزيد ولا تنقص ثم لم تضف شيئا لا الخضار ولا البهار ثم خرجت والتفتت بعد ذلك للشغالة والتصقت بها التصاقا لا فكاك منه وقد كانت الشغالة في حصة النضافة فبدأت تدور معها أينما تدور تلقي التعليمات وتبدي الملاحظات والشغالة المسكينة تنفذ ما يطلب منها في صمت مجيد فعجبت لذلك وقد كان في امكانها أن تجلس واضعة رجلا على رجل بعد أن تصرف لها (بركاوي) التعليمات وهي في وضع مريح. وفي الفواصل بين هذا وذاك كانت تخرج الحوش لا لفعل شيء محدد وربما استنشاق الهواء (الفرش) وتجديد المناظر. وفجأة خطر في خاطري خاطر هو انني منذ أن تزوجت كنت يوميا بعد العمل اتلقى بمجرد دخول المنزل فاصلا من الشكوى المريرة من الزوجة عن الانهاك والاستهلاك والركب السايحة والأعصاب الرايحة فأجلب لها الكريمات والمهدئات وأحيانا ابرها بأغنية ابو عبيدة حسن : انت تبري من الألم والألم ما لينا نحن ماهو باين في عيوننا مهما جينا ولا رحنا إلا يوم فاتنا وطراكي دوبو أصبح لينا محنة ولكننى مع حبسة الكورونا اكتشفت أن وجع الاعصاب وخلخلة الركب انما بسبب الحوامة والحواصة واللواصة ال(unnecessary) أي دون ضرورة وان لقب (شكية) الذي التصق بزوجتي من صديقاتها مع أن اسمها الحقيقي هو زكية كان لهذه الشكوى المتواصلة وقد اسميتها في سري (زكية شكية) وان لم أستطع أن اصرح بذلك علنا فكان هذا من اول فوائد ومخرجات حبسة الكورونا. كنت منذ أن تزوجت انزعج جدا عندما تصرخ الزوجة في التليفون.. (ما معقول).. ولكنني كنت أتجاهل ذلك عندما لا يعقب الكلمة كلام آخر بنفس الحدة غير انني وبسبب الفراغ استرقت السمع للزوجة وهي تتحدث في التليفون لاعرف ماهو هذا الشيء المامعقول لاكتشف أن الصديقة في الطرف الآخر ابلغتها في حسرة انه قد سقط من يدها فنجان تكسر وبذلك نقص الطقم واحد وهذه خسارة كبيرة لا تعوض مع أن الحبوبات عندهن حكمة تقول (كفاية من الدستة ملعقة) فماذا يضير لو فقدت فنجالا لا يسوى نكلة؟ ومن بعد ذلك أصبحت عندما اسمح كلمة (ما معقول) او (مبالغة) لا اعير الأمر اهتماما يذكر بل اتقلب بالوصيد ذات اليمين وذات اليسار في السرير واتغطى بالحرير وانام هانئا قرير العين لمعرفتي أن لا امر خطير يحدث ولا غيره وهذا أيضا من فوائد حبسة الكورونا. ذات مرة من المرات وانا في غاية الاندماج مع مسلسل تركي إذ بي اسمع طرقا متواصلا على الباب لا يتوقف فهرعت استجلي الأمر وعندما فتحت الباب ارتفعت عصا في الهواء وكادت أن تهوي على نافوخي فتقسمه نصفين. وعندما افقت من المفاجأة رأيت جارتنا علوية وهي امرأة سبحان الله لا اطيقها أبدا لسبب مجهول. اعتذرت في خجل ودخلت (توش) حيث توجد الزوجه تبعتها ومن على البعد سمعت ما دار من نقاش وهو في مجمله لوم من الجارة علوية لعدم اشراكها في مناسبة جمعت الجارات وتهديدها لزوجتي زكية بالويل والثبور وعظائم الامور إن تكررت مثل هذه الأمور فوجدت في ذلك طرافة وظرافة وكسرا للروتين من الجارة التى كنت استثقلها فوجدتها بصورة لم ارها من قبل آخر ظرافة وقمة اللطافة وهذه أيضا من حسنات الكورونا فقد كشفت لى جوانب مخفية من هذه الشخصية العجيبة. مازال صاحبي يحكي وانا اصغي في استمتاع شديد لهذا الرجل الرشيد الذي حباني الله بمعرفته ومعرفة الرجال كنز. أضاف صاحبي رواية أخرى للروايات الغريبة والحركات العجيبة فقال انه لاحظ أن زوجته تتسلل إلى ركن قصي من المنزل تتحدث همسا في الموبايل ومع أنه يثق تماما في زوجته فهي امرأة مستقيمة صوامة قوامة ولكنه بدافع الفضول تبعها يوما في خفة يستمع لما تقول دون أن تشعر بوجوده فوجدها تحدث والدتها تقريبا وهي تشكو من الزوج الذي وعدها بتغيير طقم الجلوس ولكنه يماطل ويتحجج كل يوم بحجة جديدة وأنها قد ملت من ذلك وكلت. لم اسمع رد الأم ولكن الزوجة صمتت عن هذا الأمر في مقبل الأيام فعلم أن نصيحة الوالدة هى أن تنسى هذا الموضوع وان لا تخلق لها موضوع من لا موضوع وتثير المشاكل بلا داعي فحمد الله أن هيأ له نسيبة حسيبة عاقلة ترشد زوجته إلى الصراط المستقيم. ولكن أطرف هذه الحكاوى الظريفة والروايات اللطيفة ما رواه لى من انه ذهب لمحل الاجمالي وشحن الضهرية من مجاميعه السكر والشاي واللبن والبن والزيت والدقيق وبقية المواد التموينية وقد تعبت الشغالة في ترحيل هذه الحمولة الثقيلة من ضهرية السيارة للمخزن. بعد أيام وفي جولة تفقدية على المنزل يقتل بها الفراغ العريض اكتشف أن هذه المواد قد نقص نصفها ولا يدري اين ذهب فغضب ولكن كظم غيظه واستدعى الشغالة يستسفرها عن ذلك مستغلا انشغال الزوجة بأمور أخرى. وقفت الشغالة وبعد تردد قالت (بابا نص مشى) ثم أشارت بيدها ناحية منزل أهل الزوجة ففهم أن حرمه المصون قد قامت بترحيل نصف مؤونة المنزل لبيت أهلها سرا عرفانا لهم لحسن الرعاية وتمام الرباية فقال في نفسه الحمد لله فقد ذهبت مثل الزكاة في مصارفها وانه ما نقص مال من صدقة أبدا. وهكذا حمد الله وشكره أن هيأ له زوجة هدية رضية لا نكدية ولا غيره وانه يجب أن يعض عليها بالنواجذ فقدره أن يعيش معها أبدا الدهر. هجا الفرزدق احد الخلفاء وهرب فبعث وراءه الجند فأحضروه مكبلا بالاغلال وعندما وقف أمام الخليفة مدحه قائلا: ولكنك الليل الذي هو مدركي وان خلت أن المنتأى عنك واسع فمن يهرب من الليل؟ يقال إن الخليفة عمر بن الخطاب عندما نوى غزو الشام علم وهو في نصف الطريق نزل بها مرض الطاعون فعزم الرجوع للحجاز هنا انبرى له ابوعبيدة عامر ابن الجراح قائلا (هل نهرب من قدر الله يا أمير المؤمنين؟) فرد عليه الخليفة عمر، (بل نهرب من قدر الله إلى قدر الله) فلا مهرب من القدر.. ابق مع زوجتك فهي اختيارك وحلالك وغني مع ابراهيم عوض : ليه بنهرب من مصيرنا ونقضي ايامنا في عذاب ليه تقول لي انتهينا ونحن في عز الشباب وهكذا فقد ابان لي الصديق العزيز أن الكورونا أيضا لها منافع فقد كشفت له جوانب مخفية في الزوجة العزيزة جعلته أكثر تمسكا بها ورب ضارة نافعة وسلامتكم.