.زميلنا الدكتور عِمران محمود يعمل بقسم الاقتصاد بجامعة امدرمان الإسلامية كتب أطروحة دكتوراة عن اقتصاديات الطاقة بها معلومات مُذهلة عن وضع الطاقة ومستقبلها في العالم وكيف تحول النفط من سلعة عادية حتى عام 1973 إلى سلعة استراتيجية حتى الآن، كما بالبحث حقائق مخيفة سوف أستعرضه لاحقا عندما يزودني كاتبه بنسخة منه بحسب ما وعد. علق صديقنا عمران على مقالي السابق، الذي جاء تحت عنوان: "دكتوراة للبيع" والذي أشرتُ فيه إلى تدهور مستوى البحث العلمي (النظري) واضطراب المعايير في الدراسات العليا. فذكّرني بالجانب الآخر للقضية – حتى تكتمل الصورة. الجانب الآخر هو معاناة الأستاذ الجامعي نفسه. وهو على حق. نعم، فالأستاذ الجامعي في وضع لا يشجعه على الأداء المتميز أو كتابة بحوث جيدة لأنه (مشلهت) ومشتت في اتجاهات كثيرة و (يقاتل) في جبهات عديدة من أجل لقمة العيش. فهو في سبيل الحصول على العيش الكريم يجد نفسه مضطراً أن يعمل ساعات إضافية في التدريس ويتعاون مع أكثر من جامعة، وهذا يعني المزيد من الوقت لتصحيح الكراسات والقراءة والتحضير إضافة على الإشراف على بحوث الدراسات الدنيا والعليا. إذن الأستاذ الجامعي مستَهْلَك (exhausted) ويقل أو يتأثّر تركيزه. والتالي على الأرجح أن لا يستطيع أن يبدع – بمعنى يقدم أقصى ما عنده أو لا يعمل بمستواه الحقيقي! وعليه، فمن المتوقع أن لا تكون ملاحظاته على البحوث بالدقة المطلوبة – سواءً كان مشرفا على البحث أو مناقشاً له. وقِس على ذلك الكتابة والتأليف، فقد لا يستطيع أن يكتب بحثاً قويا يجتاز التحكيم (خاصة خارج السودان) ويفرض نفسه للنشر. إذن الأستاذ الجامعي تحت ضغط شديد ويعيش دائما في توتر (تنشن) بين واقعه المادي والأكاديمي وما ينبغي أن يكون. إذاً، لماذا لا يهاجر (600) أستاذا جامعياً في عام دراسي واحد إلى دول الخليج إذا كان الأستاذ أصبح مفلِّسا (بكسر اللام مع تشديدها) أو أصبح (مُفلِّس أفندي)؟! فالأستاذ في الماضي كان له حساب في البنك، أما اليوم فصار (عليه) حساب في الدكان!! وفي الماضي كان أستاذ الجامعة أغنية على لسان البنات: "يا ماشي ل باريس/ جيب لي معاك عريس/ شرطاً يكون من هيئة التدريس". أما اليوم فقد (انحرفت) الأغنية إلى اتجاه آخر: "يا ماشي لباريس/ جيب لي معاك عريس/ شرطاً يكون لبيس زي صلاح إدريس". أما الأستاذ الجامعي فقد (ذهب مع الريح).. في نقاشه لمقالي السابق كان للأخ عمران ملاحظة أخرى وهي أن درجة الأستاذ الجامعي (يحمل دكتوراة) في الخدمة المدنية تعادل وكيل وزارة وكذلك (لواء) في الجيش. يعني الأستاذ مشارك يعادل فريق والبروفيسر مشير – معقولة دي؟ ربما يقصد على مستوى "الدرجة الوظيفية" أو المرتب الأساسي. أما مع إجمالي المخصصات تظهر المفارقة الكبيرة حيث يحصل نظراء الأستاذ الجامعي (في الدرجات القيادية العليا والقوات النظامية) خمسة أضعاف دخل الأستاذ الجامعي، والمفارقة أكبر في فوائد ما بعد الخدمة (مافيش مقارنة). صحيح أن الحكومة قد حسَّنت من وضع الأستاذ الجامعي نسبيا في السنوات الأخيرة. لكن ما زال الوضع دون الطموح وبالتالي سوف تستمر هجرة العقول ونزيف الأدمغة خاصة بعد (نزيف الجيب) – أقصد التضخم الأخير الذي تضاعفت فيه الأسعار إلى أكثر من (100%) والتالي إذا أراد الأستاذ الجامعي أن يحافظ (مجرد محافظة) على مستواه المعيشي السابق وهو يحصل على راتب قدره (ألفي جنيه في الشهر) فيحتاج اليوم إلى أربعة آلاف أو أكثر (أربعة ملايين بالقديم). ولا ننسى أن على الأستاذ التزامات اجتماعية كبيرة فهو مطلوب منه أن يظهر بالمظهر اللائق أما الطلبة والمجتمع ويركب سيارة، ويعيش في وضع أو مركز اجتماعي محدد يناسب مكانته العلمية الرفيعة، وأن يتعلم أولاده بطريقة معينة، ومُحاكم بنمط سلوك اجتماعي محدد – يقابله شكل محدد من أشكال السلوك الاستهلاكي! فأنا، مثلاً، بموت في (العصيدة) خاصة الدخن بملاح التقلية والروب. لكني لا أستطيع أن (أتفرجخ في الواطة) عند بائعات هذه المأكولات البلدية واستمتع كما يفعل الآخرون (نحسدكم). فإذا ما فعلتُ ذلك ورآني الطلبة، من الجنسين، بكرة أسمع في الجامعة (والله كان شفتو أستاذ عبده قاعد ياكل....). فيكون الأستاذ مضطراً أن يأكل في كافتريات ومطاعم (أخرى) ويدفع أكثر. الأستاذ مضطر أن يركب سيارة حتى ولو بالأقساط مثلما فعلتُ حيث ارتكبتُ حماقة فحصلتُ على عربة يابانية بمبلغ (72 مليون ج) بالتقسيط (خلصت الآن بحمد الله) لكن كانت النتيجة أنها وضعتني في قفص الاتهام (ظلماً) بأنني "برجوازي" وطبعاً هذا الاتهام يجر وراءه متاعب أخرى. الجانب الآخر هو ضَعْف تمويل التعليم العالي والبحث العلمي. فنظرتنا في السودان للعلم والعلماء قاصرة جدا. وقد زعمت الحكومة في وقت سابق أنها تهدف إلى بناء (دولة العلم الحديثة). كيف تستطيع أن تبني دولة العلم الحديثة وأنت عملت على تدمير مستوى التعليم وعزلت الجامعات من التفاعل مع الجامعات العالمية ولم تشجع المشاركات للأساتذة في الخارج، ولم تدعم البحث العلمي بما يكفي حيث نجد أن نصيب البحث العلمي في الميزانية (أو الموازنة العامة) الأدنى في العالم. ونسبة تمويل البحث العلمي أقل من 1% ، تقريبا (0,02%) من الدخل القومي! بينما دولة مثل إسرائيل تخصص ما يصل أحيانا إلى (6%) من دخلها القومي للبحث العلمي. (آل دولة العلم آل).