كانت مديرة الجودة الحسناء تتحدث خلال الاجتماع - الذي ضم مجموعة من العاملين في الفروع المتعددة للشركة يلتقون لأول مرة – بإنقليزية على قدر من الطلاقة يصعب أن تتسرب معه أية وساوس حول أصول المتحدثة لولا أن طلّتها البهيّة كانت مما يشي بملامح غير الأمريكية والإنقليزية الكلاسيكية.. ملامح إسبانية على سبيل المثال، فكانت دهشة الجميع عظيمة حين عرفوا لاحقاً أن أصولها القريبة جداً ترجع إلى باكستان. ولأن كلمة "من أصول كذا" تعني في أحيان كثيرة أن المرء يحمل هويّتين رسميّتين حتى إذا كانت إحداهما حديثة العهد، فإن مديرة الجودة الحسناء تلك - كما استوثق زملاؤها المندهشون عقب تحرِّيات لاحقة – كانت لأب وأم هاجرا إلى الولاياتالمتحدة في صحبة ابنتهما الصغيرة (حينها) التي أتقنت الإنقليزية بعدها بحكم التنشئة وليس الوراثة لأجيال عديدة ترعرعت في بلاد المهجر. وإذا كان ما مضى من تحرٍّ وتحليل كافياً لإطفاء غليل زملاء شرقيين تجاه زميلة متشبِّهة بالغرب في عجرفة، فإن لبعض أبناء الغرب نفسه حديثاً آخر، فمارتن الذي لم يسرّه تجاهل الباكستانية الحسناء له وعزوفها عن مخاطبته بقدر من إعجاب وخضوع شرقيين يأنس لهما أبناء الغرب – لا سيما الإنقليز والأمريكان – وهم يحاولون أن يُظهروا من المشاعر ما يوحي بحرصهم على المعاملة الندية بخلاف ما يضمرون من الرغبات على ذلك الصعيد الدقيق من الملابسات النفسية المضمرة وليست المتنازعة بالضرورة. مارتن ذاك ساءه حالة الباكستانية المتأمركة أكثر مما ساء أيّاً من زملائها الشرقيين، حتى إنه عارضهم أشد المعارضة فيما أجمعوا عليه - على مضض - من صعوبة التحقق من أصلها الباكستاني بدون فريق تحريات متلهف يتطوّع بإسداء الخدمات له فريق آخر من الوشاة الحانقين. عندها ظن أولئك أن مارتن ربما وقع على زلّة في لسان الفتاة أخطأتها آذانهم غير المرهفة مع لغة العم سام فسألوه: أين أخطات؟. أجاب مارتن: إنها لم تخطئ البتة.. وهذه هي المشكلة، نحن نتحدّث الإنقليزية بقدر أكبر من العفوية وليس إلى هذا الحد الهوسي من الإتقان. غير أنه ليس من الحكمة أن نأخذ كلام مارتن على أنه - جملةً واحدة - بدافع الغيظ من حسناء شرقية تمارس الأمركة بقدر عالٍ من الاحتراف، فملاحظته لفتة نفسية بارعة في باب ولع المغلوب بالتشبُّة بالغالب عندما يمتلك الأول من المواهب والأدوات ما يعينه على تضليل المتابعين على طرفي المساجلة بدرجة داعية إلى الافتتان من شدة الإتقان الذي لن يفلح مهما بلغ من الدقة في سدّ ثغرات النقص في نفس توّاقة إلى نشدان الكمال لدى مثل عليا منبتة الصلة بأصولها المنكَرة. ولكن الأهم في سياقنا هذا أن العولمة لم تفلح في إلغاء العنصرية من قاموس عرّابي العولمة الأكثر بياضاً وأكثر تقدُّماً، وهذا موافق تماماً لطبائع الأشياء على هذا الصعيد، فالغرب – بالزعامة الأمريكية المعلومة – عندما بارك فكرة العولمة لم يفعل ذلك لدواعٍ إنسانية أو حتى ثقافية في المقام الأول، وإنما للمنافع الاقتصادية التي تحسبها بدقة منظومة سياسية شديدة التشابك ترفع أبداً لافتة "المصلحة أولاً" شعاراً لها جديراً بالتقدير بالنظر إلى صراحته ابتداءً ثم إلى القدر المعقد الذي يُولَى لحساب المنفعة مع كل منعطف في مناحي حياتنا التي باتت تخلو تماماً من الخطوط المستقيمة معلومة الوجهة سلفاً (هل كانت الحياة يوماً ما على غير ذلك؟). بيد أن العولمة قد أفلحت في معالجة العنصرية في نفوس عرّابيها أولئك إذا كانت المعالجة تعني كبت المشاعر الأصيلة تغليباً للمصلحة وأحياناً للقيم التي لا مفر من الإقرار بها في لحظة تاريخية مما يستحق ذلك الوصف أو من المبالغ فيه على حد سواء، وهكذا فإن باراك أوباما لم يعد زعيماً لأمريكا لأن غالبية الأمريكان لم تعد ترى فرقاً بين اللونين الأبيض والأسود وهما يكسوان جلود البشر، بل لجملة من الأسباب المتشابكة أهما أنه كان المرشح الأنسب "موضوعياً" للفوز بالرئاسة في وجود شرط ضروري يتمثل في الضعف الظاهر للخصوم سواء من الحزب المنافس أو داخل حزبه الديموقراطي ذاته، وليس بإمكاننا غض البصر عن حقيقة أن كثير من الأمريكان البيض قد صوّتوا للنصف الأبيض في رئيسهم ثنائي العرق بصوت كامل لم يكن من الممكن اقتسامه إلى نصفين أحدهما يعارض الجزء الأسود في الرئيس المأمول. ولكن العنصرية تظل واحدة من الصفات الأكثر قابلية للكبت في انتظار حافز يدعو إلى التأجيج، وهي بعدُ أيسر الصفات التي تعين على تكوين الجماعات والسير بها إلى أية وجهة ولو كانت الحرب نفسها بأيسر الإمكانيات المتاحة للحشد، وعليه فإن حدثاً في "تواضع" فوز أوباما برئاسة الولاياتالمتحدةالأمريكية أو آخر في جلال اكتساح العلومة لا يمكن اعتبار أيٍّ منهما دليلاً على موت العنصرية أو حتى خفوت جذوتها في نفوس البشر. الأدعى من كل ما سبق، وإن يكن ليس من السهل فصله عن أيٍّ مما سبق، في النظر إلى العولمة والعنصرية أن العالم الغربي لم يعد يجد حرجاً في الإقبال على كل شيء وهو مصنوع في الصين. ولم تجد دعوة زعيم الغالبية الديموقراطية في مجلس الشيوخ الأمريكي السناتور هاري ريد إلى حرق أزياء الرياضيين الأمريكيين الممثلين بلادهم في أولمبياد لندن 2012 لأنها مصنوعة في الصين أصداء مؤثرة حينها، ولكن ذلك التجاهل لا يمكن أخذه سوى على أنه مجدداً علاج العنصرية عن طريق الكبت ليس بدافع الخوف وإنما الانفتاح على طريقة العولمة التي تقدِّس المصالح على حساب القيم والمشاعر. وإذا كانت القيم محل خلاف بين البشر منذ الأزل فيما يتعلّق بتصنيفها خيراً وشراً، فإن العولمة ليست مهتمة على ما يبدو في مسألة المشاعر بمغبة تجاوز الأصيل منها، إذا كان ممكناً على الأقل الاتفاق حول أمثلة للأخيرة كالعنصرية من وجهة نظر شرقية أو غربية.. لا فرق.