ريتشارد ليتش مهندس الإلكترونيات الإنقليزي في شركة سيمنس الألمانية الشهيرة تنقَّل بحكم قوانين العولمة بين أكثر من شركة عابرة للقارات، ولم يكن انتقاله الأخير إلى الشركة الألمانية الأكبر أوربياً في مجالها سوى عندما ابتلع الألمان شركة إنقليزية كبيرة (ليست منافسة تماماً) بمن فيها من العمالة كما يتجلَّى من وضع السيد ليتش. لكن الأمر لم يثر أية لواعج عرقية لدى ريتشارد وزملائه الإنقليز - في المصنع الذي بيع للألمان – ولا حتى لدى أي مواطن إنقليزي كما أرجِّح، فقد رأينا في مثال أكثر شهرة (وحرجاً للكبرياء البريطاني؟) كيف أن تاتا موتورز الهندية قد اشترت جاقوار لاند روفر بمن فيها من العمالة الإنقليزية، ولن يخفف من الحرج أن مقر العلامة الذائعة في سوق السيارات لا يزال في ويتلي - كوفينتري بالمملكة المتحدة، بل ربما كان ذلك من مكر الهنود في التمكين لدلالة الغزو التقني (وما يتفرع عنها من دلالات الغزو المعنوية الأكثر حرجاً) للإمبراطورية التي كانت الهند إحدى أشهر مستعمراتها الموغلة في تبعيتها، كما لن يخفف من ذلك الحرج أن شركة جاقوار لا تزال يُشار إليها بوصفها شركة بريطانية عابرة للقارات مملوكة لتاتا موتورز، فالشركة الأخيرة معلومة الأصل والفصل لكل من هب ودب على دروب العولمة وما سبقها من طرق الصناعة الوعرة. كل تلك الهواجس فيما يبدو من سمات المعنيين بتعقُّب عورات العولمة الفكرية مما لا يعني رجل أعمال ومهندساً كالسيد ليتش، فعند ريتشارد أبرز تجليات ابتلاع سمينس لشركته الأم أنه سيعود إلى وطنه لأمور تتعلق بإعادة توزيع الموظفين وفق رؤية الشركة الجديدة مما ليس له علاقة بالضرورة بالوطن الأم لأي من أولئك الموظفين. وريتشارد ينظر إلى المسألة بدوره بمعيار العولمة، فالأمر لا يثير لديه مشاعر تتعدّى على نحو واضح غبطة الاحتفاظ بالوظيفة مع الإدارة الجديدة وربما ترقية محتملة في ظل رأس المال الضخم والأرباح المتزايدة للمالك الجديد، أما البقاء قرب الأهل والأحباب فمسألة ثانوية، أو هكذا على الأقل يعبر ريتشارد عن أسفه لفراق دبي مقر عمله السابق، ويضيف وهو يطمئن أصدقاءه من شركاء العمل القدامى: "حتى وأنا أنتقل إلى نيوكاسل لا تزال دبي هي الأقرب لي من لندن، ليس بحكم زيارات العمل المتكررة فحسب، فمع تدشين طيران الإمارات لخط مباشر بين دبي ونيوكاسل يغدو التنقل بين المدينتين بالطائرة أيسر بالفعل من قيادة سيارتي من نيوكاسل إلى لندن والعكس". وإذا كانت وسائل الاتصالات الحديثة قد قرّبت المسافات بين أطراف العالم منذ زمن بات بعيداً، فإن فضل العولمة تحديداً على هذا الصعيد أنها جعلت ذلك القرب يطغى حتى يكاد يقلب المنطق الجغرافي في حساب الأبعاد بين البلاد إلى الدرجة التي تصبح فيها مدينة شرق أوسطية أقرب إلى أخرى في أقصى شمال القارة الأوربية من عاصمتها.. بمبالغة طفيفة في الحساب. وعند جون ويلار يتعاظم الشعور بالغربة إبّان قضاء الإجازة الصيفية في ليفربول مسقط رأسه، بينما شعوره بأنه في بيته ينعم به بقية العام وهو يكدّ في أبو ظبي حيث يعمل في مجال قريب من عمل السيد ليتش آنف الذكر. الأدهى أن زيارة للكويت أو مسقط أو المنامة بداعي العمل أو قضاء نهاية الأسبوع مع أنسبائه تجعل السيد ويلار ينعم بشعور من فارق بيته إلى بيت الجيران في الحي ذاته أو في حي مجاور على أبعد تقدير، ومجدداً بمبالغة طفيفة.. ولكن في حساب المشاعر هذه المرة. وإذا كانت مشاعر جون ويلار من جملة السابق للعولمة من الظواهر (العابرة للتاريخ)، فإن ما فعلته العولمة هو أنها جعلت أمثال جون أضعافاً مضاعفة في حساب البشر الذين يألفون دُوراً غير دُورهم وأهلاً غير أهلهم. والأعمق مما يتصل بذلك من المعاني أن فكرة "المواطن العالمي" لم تعد مستغربة مع كثرة التجوال بين البلاد، والمعنى الأكثر عمقاً من كل ما سبق هو التجوال الافتراضي جسداً والواقعي على صعيد المشاعر والأفكار التي باتت قادرة على التواصل والتأثير وعتادها لا يتعدّى هاتفاً محمولاً أو وصلة إنترنت. برغم كل ما مضى، إذا كانت أبواب العالم قد انفتح بعضها على بعض كما لم يحدث من قبل، وباتت فكرة المواطن العالمي ملموسة على الأقل في هيئة نماذج متباينة الأشكال والمعاني، فإن مارد العولمة لا يزال يستفز المناهضين لها إلى حد الارتكاس إلى الأفكار والمشاعر المحلية والقومية بصورة بيِّنة الحدة. يحدث ذلك بوضوح وإصرار كبيرين حتى إذا لم يكن بوسع من يقوم به أن يبرهن شرَّ العولمة المستطير بأكثر من التذمر وحفنة من نظريات المؤامرة. عمرو منير دهب هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته